بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 17 فبراير 2021

" تين أيت إيمان "

مركزتيفاوت الإعلامي
- الحلقة الثانية -
فيما كانت شاحنة "بدفورد" تخترق منعرجات الطريق المؤدية لهضاب الضاحية الشمالية الغربية للبلدة، كانت أولى أشعة الصباح قد بدأت تلامس قمم الجبال المكسوة بالثلوج. كانت الرياح الهوجاء التي سادت ليلة أمس قد هدأت نسبيا ليعم السكون أرجاء المنطقة.

داخل مقصورة الشاحنة، جلس الحاج فاسكا وقد لف من حوله سلهامه الصوفي الأبيض يستمع للمذياع الذي كان قد بدأ في بث حصة جديدة من حصص تفسير القرآن الكريم التي يقدمها صباح كل يوم فضيلة الشيخ محمد المكي الناصري.

وفيما هو على تلك الحال، عادت به أسماعه مجددا لصوت ذلك الرضيع الذي كان في حضن أمه يئن من شدة الألم. لربما بسبب ذلك، عادت به الذاكرة لتلك الفاجعة التي ألمت منذ بضعة أسابيع بزوجة أصغر أبناء جاره موحا وموح نايت يدير والتي كانت حاملة في شهرها السابع ونقلت بوجه السرعة للمستشفى الإقليمي بعدما ألم بها وجع فضيع قبل أن تضع مولودا كتب له أن يزداد بتشوهات خلقية غريبة حيرت الطاقم الطبي الذي أشرف على الولادة. لم يكتب للجنين أن يعيش سوى أيام معدودة قبل أن تدركه المنية فأعيد للبلدة في صندوق خشبي ليوارى الثرى بالمقبرة المطلة على الوادي إلى جانب أطفال آخرين شاءت الأقدار أن يتوفوا على إثر إصابتهم بعاهات مماثلة.

إلتفت الحاج فاسكا للسائق لحسن فقاله له:
- اليوم، بعد عودتنا من هذه المهمة، اذهب إلى مصلحة البريد وابعث تلغرافا مستعجلا لوالد الرضيع لكي يحصل على "برمسيون" قصد المجيء فورا للبلدة لنقل الرضيع للمستشفى.

***

كانت الشاحنة قد سارت لأكثر من خمس كلمترات وسط الهضاب وعبر طريق ملتوية قاحلة قبل أن يتوقف بها السائق لحسن بالقرب من تل يطل على وادي مهجور. يتذكر الحاج فاسكا جيدا هذا المكان المرعب والذي كانت السلطات الاستعمارية تنقل إليه زعماء المقاومة الذين تكون قد أصدرت في حقهم أحكام بالإعدام لتصفيتهم بوحشية منقطعة النضير. وقد حكت له والدته ذات يوم كيف اقتيد خاله المقاوم يدير نايت داود إلى هذا المكان في عز الجهاد ضد المستعمر بعدما رفض التصريح بهوية من كان يزوده هو والمقاومين الآخرين بالأسلحة فصدر في حقه حكم بالإعدام ورمي في حفرة نتنة وضعت فيها كلاب مسعورة تم تجويعها عمدا فظلت تنهش لحمه أمام أنظار بعض أعيان البلدة إلى أن لفظ أنفاسه لتدفن أشلائه في قبر حفره سجينان قرب هذا الوادي المهجور.

فتح الحاج فاسكا باب مقصورة الشاحنة فنزل ليجد أمامه نجله حماد إلى جانب مجموعة من رجال البلدة الذين كان استقدمهم السائق لحسن منذ الساعات الأولى من الصباح لإنجاز المهمة المتفق عليها. وبعد تحية هؤلاء، توجه خلف الشاحنة فأمر السائق لحسن بمباشرة العمل. ما أن سمع هؤلاء الرجال هذا الأمر حتى هبوا لإزالة الغطاء الذي يلف الحمولة لتبرز جثت أغنام ومعز جاحظة الأعين توفيت وهي تعظ ألسنتها وقد بدأت تنبعث منها رائحة كريهة.

وقف الحاج فاسكا مشدوها لهول ما رأى قبل أن يسأل السائق لحسن:
- كم عددها هذه المرة؟
- 17 رأسا من الأغنام و11 من المعز؛ أجاب السائق لحسن وهو منهمك في فك آخر الحبال التي كانت تشد جزءا مستعصيا من الغطاء.

أحس الحاج فاسكا بدوار شديد، ربما بسبب الرائحة الكريهة التي تنبعث من الجثث أو بسبب داء السكري الذي تأكدت إصابته به منذ زمن. قام نجله حماد بمده بكوب ماء قبل أن يمسك بيده ويعود به لداخل المقصورة الدافئة. من هناك، ظل الحاج فاسكا يتابع أطوار عملية طمر الجثث المتعفنة.

فيما بدأ الرجال بإنزال الدواب الميتة من سطح الشاحنة ووضعها واحدة تلو الأخرى في الحفرة الهائلة التي تم إعدادها لهذه الغاية، كان السائق لحسن يقوم بإفراغ أكياس من الجبس فوقها قبل أن يتم طمرها بأكوام من التراب الذي تم مزجه بالإسمنت لمقاومة عوامل التعرية.

بعد الانتهاء من عملية الدفن، قام رجال البلدة بغسل أيديهم بماء "جافيل" درءا لأي عدوى قد تنتقل إليهم من جراء التعفن الذي أصاب جثث المواشي. بعد ذلك، قاموا بتنظيف ظهر الشاحنة بمياه ممزوجة بمواد معقمة جلبها حماد بن الحاج فاسكا من عند بيطري مصلحة الفلاحة بالمدينة مقابل هدية بسيطة تتمثل في كرطوشة سجائر من نوع "مالبورو" وقنينة ملفوفة في كيس بلاستيكي.

مباشرة بعد ذلك، عاد السائق لحسن لشاحنته التي أدار محركها مغادرا المكان. تبعه نجل الحاج فاسكا بسيارته "رونو إسباس" المرقمة بفرنسا والذي تبعه بدوره باقي الرجال في سيارة "بيكوب". على مدى طريق العودة، ظل الحاج فاسكا ملفوفا في سلهامه الأبيض وهو غارق في صمت عميق. فجأة، أخرجه السائق لحسن من عزلته قائلا:

- آ السي الحاج، سأحكي لك ما جرى زوال أول أمس: لقد كان زايد كعادته يرعى الأغنام والمعز في السفوح القريبة من تلك الشركة المنجمية قبل أن يغلبه نعاس القيلولة. في لحظة ما، أحست تلك الأغنام والمعز بالعطش فتوجهت صوب البحيرة المعلومة فارتوت منها كثيرا. وفي طريق العودة إلى الإسطبل مساء نفس اليوم، بدأت تظهر عليها أعراض مرض غريب. في صباح اليوم الموالي، وفيما كان الراعي زايد يهم بإخراج المواشي مجددا للرعي، تأكد أن العديد منها كانت قد هلكت.
- زايد راعي جدي لا يمكن بتاتا أن تحوم حوله أدنى الشكوك؛ رد الحاج فاسكا وهو يطوف بنظره على الجبال الجنوبية الشرقية التي بدأت تستقبل أشعة الصباح الكاشفة لحجم الغبار المنبعث من الشركة المنجمية المعلومة.

أطفأ السائق لحسن المذياع الذي كان قد بدأ في عرض أخبار النشرة الصباحية تم، وبالصرامة التي تميز شخصيته، توجه للحاج فاسكا قائلا:  
- لقد استشرنا الطبيب البيطري وأكد لنا أن النفايات الكيميائية التي تفرغها الشركة المنجمية في تلك البحيرة هي السبب الرئيسي في هذه المصائب التي تحل بأبنائنا ومواشينا وحقولنا وبساتيننا.
- يا لحسن، لاشيء يثبت ما يقوله هذا البيطري، فهو مستعد لإثبات أن أصل الإنسان قرد، حاشا لله، لمجرد الحصول على ما يقتني به قنينة عند "أكراب" المدينة؛ أجاب الحاج فاسكا وعلامات الإحباط بادية عليه.
- لا آ السي الحاج، لقد قام بعض طلبتنا بالجامعة بنقل عينات من مياه مأخوذة من البحيرة المعلومة وعرضوها على مختبرات متخصصة بمدينة مراكش فأكدت النتائج أنها ملوثة بنسب مقلقة للغاية بمواد سامة قد تكون لها أضرارا وخيمة على صحة الإنسان والحيوان والنبات؛ قال السائق لحسن بغير قليل من الصرامة والحدة.

رد عليه الحاج فاسكا بصرامة أشد وقد بدأت يداه ترتعشان:
- أيا ما كانت نتائج تلك التحليلات، فهذه الشركة تجاوزت كل الحدود. لقد ارتمت منذ زمن على أرضنا تستغل فيها مناجم دون استشارتنا، تم قامت بحفر بئر عميقة لجلب مياه جوفية بدون موجب حق فتسببت في جفاف آبارنا، وهاهي ذي اليوم تفرغ نفايات سامة في الأودية والبحيرات فيمرض أطفالنا وتهلك مواشينا ومزروعاتنا. وفوق كل هذا وذاك، هذه الشركة أخلت بالتزاماتها في ما يخص تشغيل أبنائنا العاطلين؛ رد الحاج فاسكا وقد بدأ وجهه يميل للاصفرار ربما بسبب تداعيات داء السكري قبل أن يقول:  "إسمع جيدا يا لحسن، وحق من بيده مفاتيح السماء والأرض، لن أسكت عن هذا المنكر حتى يوضع له حد أو أهلك دون ذلك."

في تلك الأثناء، بدأت أشعة الشمس تغطي كافة أرجاء البلدة معلنة ميلاد يوم جديد.

(يتبع يوم الخميس...)

× تنويه لابد منه:
هذه شذرات قصصية مستوحاة من أحداث واقعية لا تعكس بالضرورة ما قد يكون وقع فعلا في مرحلة ما في تلك البلدة.

ليست هناك تعليقات: