بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 5 يناير 2021

سقراط والموت الحميد:

مركزتيفاوت الإعلامي
 سعيد بودبوز
في نقده للفلسفة الإغريقية، أشار نيتشه إلى أنّ الإغريق عرفوا متى يبدؤون التفكير الفلسفي، ولكنّهم لم يعرفوا متى يتوقّفون، وبالتالي لم يتوقّفوا في الوقت المناسب، لذلك شاخت فلسفتهم وأصبحت جافة قاحلة، وأنّ سقراط هو من يجسّد تلكم الشيخوخة، ونحن نتساءل؛ إذا لم يتوقّف الفكر الفلسفي الإغريقي عموما في الوقت المناسب، فهل مات سقراط في وقت مناسب؟. أم أنّ في إقباله على الموت بنهم إشارة إلى أنّ للفكر الفلسفي حدوداً يجب أن يتوقّف عندها؟. على العموم. يبدو أن سقراط رحّب بموته إدراكاً منه بأنّ ما قاله نيتشه فيما بعد، لابدّ أن يقوله قائل عن مساره الفكري ودوره في تطوير الفلسفة الإغريقية. ولقد كان في موته حياة لأولي الألباب من تلامذته على الأقل.
فكما حوكم سقراط في زمانه بالإعدام البدني، حكم عليه نيتشه من آخر الزمان بالإعدام الفلسفيّ، حيث اعتبره نذير شؤم يجسّد شيخوخة الفكر الهليني (الراقي) والزج بالفلسفة الإغريقية في غياهب المنطق الجافّ إلى درجة ادعاء تلقّي الوحي من إله، وإن بلوغ هذه الدرجة-بالنسبة إلى نيتشه- تعتبر علامة بارزة على شيخوخة الفكر والثقافة، حيث أن الفكر عندما يشيخ يخرف، وتداهمه الخرافة، فلا يبقى ثمة تمييز صارم بين ما للأرض وما للسماء، ذلك لأنّ الجسد كلما تقدّمت به الشيخوخة تزهد فيه الروح وتتوق لمفارقته واللحاق بالسماء، والعكس صحيح.
معلوم أن سقراط لم يكن مجنوناً، ولكنه مع ذلك استقبل الموت بسعادة، فلماذا؟. لعلّ الغاية التي كان يريد بلوغها وتبليغها لتلامذته تتمثّل في أنّ هذا الفيلسوف (الشيخ) بات يدرك أسرار القانون الكوني الذي يقضي بأنّ كل عطاء حقيقي لابدّ أن يترك فراغاً، أي لا يمكنك-على سبيل التبسيط- أن تعطي دولاراً دون أن يترك نقصاً في رصيدك، وهذا يعني أن المثقّف الحقيقي لابدّ له من أن يدفع ثمن أفكاره، إما بالقتل، أو بالسجن، أو بأي شكل من أشكال الإقصاء والمضايقة. فبمقتضى هذا القانون الكوني العميق، لا يمكن أن تنير منطقة إلا إذا أحرقتَ شيئاً، بمعنى؛ أنّ المثقّف الحقيقي ينوّر الآخرين بقدر ما يحترق هو إن بشكل أو بآخر، لأنّ النار في الأصل هي التي تنتج النور، وبالتالي؛ فلا نور بلا نار. 
وقد كان الإعدام، بالنسبة إلى سقراط، شرطاً، ودليلاً في نفس الوقت، على أنّ فلسفته قد أحدثت تنويراً وتغييراً وتطويراً في الفكر الهليني، وأنّ هذا "التنوير" لابدّ أنّه خلّف ناراً وهي التي ستلتهم سقراط حتماً. وهذا يعني أنّ من حكموا على سقراط بالموت، لم يكونوا، بالنسبة إليه، سوى ممثلّين لتلك الحتمية النابعة من عمق القانون الكوني، والتي لا ينبغي لمن يؤمن بالمنطق كسقراط، ويحترم القانون الذي تُدار به عجلات الطبيعة، أن يتمرّد عليها ويعترض عليها ولو بأضعف الإيمان.  
لو راجعنا تاريخ العباقرة المخترعين والمكتشفين وكبار المبدعين الذين صنعوا الحضارات وغيّروا مجرى التاريخ نحو الأفضل والأمثل، سنجد معظمهم-إن لم نقل كلهم- بين قتيل وجريح وسجين ومشرّد ومنفي ومقصي ومنبوذ. ولكن، على الرغم من ذلك، أصبحت اختراعاتهم، واكتشافاتهم، وإبداعاتهم أساسية في حياتنا اليوم، بحيث يصعب الاستغناء عنها، ولهذا بالضبط كان لا بد أن يدفعوا الثمن.. كان لابد أن يحترقوا، فالشمس التي تنير عالمنا، والتي لا يمكن الاستغناء عنها، تحترق بشكل لا يمكن للإنسان أن يتصوّره..كمية هائلة من الهيدروجين تحترق في جوفها باستمرار كي تنير طريقنا على هذه الأرض. 
وهذا هو "القانون" الكوني الذي تقوم عليه قصة يسوع أيضاً؛ فلكي يبرهن كتبة الإنجيل على أنه كان صادقا أوّلاً، وأحدث تنويراً وتغييراً وتطويراً ثانياً، كان لابد أن يصلبوه-أو يستصلبوه- ويؤكّدوا على أنه استقبل الموت بسعادة. وبيد أنك لا تحتاج إلى كثير من الذكاء حتى تلاحظ بأنّ وظيفة "الصليب" في عصرنا هذا تشبه وظيفة "العمود" الكهربائي في الشارع، فكما أنّ المصباح الكهربائي لا يمكن أن ينير الشارع إلا إذا احترق فيه شيء، كذلك المسيح لم يكن بوسعه أن يصدع بتعاليمه دون أن يدفع روحه ثمناً لذلك. 
هذا هو وجه السعادة الذي أدركه سقراط في موته الحميد، وربما أدركه نيتشه أيضاً على نطاق واسع، حيث أن نيتشه كان سيشعر بالسعادة لو جاء إعصار هائل أو سقطت حجارة من السماء وأبادت هذه الطبعة-التي يعتبرها فاشلة- من البشر كي تفسح المجال لظهور طبعة جديدة متقدمة (الإنسان الأعلى) حسب نظريته. ولهذا أيضا كان نيتشه يحب كل من يتلاعب بالنار، ويتمنى أن يحترق بها كي ينير الطريق أمام الآخرين الذين يستحقون الحياة بقدر ما يستحق هو الموت.
إنّ هذه الطريقة السقراطية في التفكير، تجعل الإنسان يتصوّر بأنّ العقوبة-الطبيعية- لا يستحقها المجرم الذي يعيث خرابا في البلاد والعباد فحسب، وإنما يستحقّها حتى ذلك النوع السقراطي من المجرمين، وهم المثقفون الحقيقيون الجادّون، والعباقرة المخترعون والمكتشفون والمبتكرون. لماذا؟. لأنّ التنوير-بكلّ بساطة-مشتقّ من النار، فلا يمكن للنجم أن يتلألأ في السماء ليلاً إلا إذا تحمّل الاحتراق. 
(نُشر هذا المقال في العدد 62 من مجلة "الإمارات الثقافية").

ليست هناك تعليقات: