
لا أخفي بداية ترددي في الكتابة حول موضوع "تبخيس" المؤسسات، الذي أضحى مثل سيف ديموقليس فوق رؤوس من يحاولون التعبير عن نقد لبعض المؤسسات، وإن كان نقدا محتشما، تسبقه عبارات الاحترام لها. وكأنك تدفع تهمة.
فقد خرجت علينا وزارة الداخلية ببلاغ في سياق تداعيات الفيديو المنسوب للمحامي زيان وإحدى موكلاته (لم تتأكد صحته بعد)، لتحذر مرة اخرى من جريرة تبخيس المؤسسات، ولكن ما معنى المؤسسات؟ وهل هناك مؤسسات لها حصانة أكثر من مؤسسات أخرى؟
الواقع أنه في مقابل الصرامة مع نقد المؤسستين الأمنية والقضائية (وهو نقد محتشم على أي حال)، يتم التساهل (حتى لا نقول التشجيع) ليس فقط مع التبخيس من عمل مؤسسات أخرى، بل التساهل مع "بهدلتها".
يتعرض رئيس الحكومة يوميا لغارات إعلامية، توزع عليه أوصاف البلادة والخوف، وقد أصبح مادة للتنكيت في إعلام "ينتفض" دفاعا عن "هيبة" الدولة حين يتم انتقاد مؤسسات أخرى ،وأحيانا وزراء آخرين من الحكومة نفسها.
خالد أيت الطالب، ومنذ استوزاره وهو مادة دسمة على موائد الإعلام، وتحس أحيانا وكأن جهة معينة أعطت أوامر لكتائبها بإطلاق المدفعية الثقيلة على الرجل، الذي لا شك ارتكب أخطاء، ولكنهم يحاولون تحميله حتى وزر ما ارتكبه متدخلون آخرون في تدبير الجائحة، ومؤخرا بدأوا يعزفون على نغمة أنه لا يتواصل مع الإعلام الوطني، وكأن وزير الداخلية مثلا يوزع الحوارات يمينا وشمالا، مع العلم أن مجال تدخل الداخلية أكبر فيما يخص مواجهة تداعيات كورونا.
قبل أيام صرح الأمين العام لحزب الاستقلال بأن الحكومة قد تسربت لها عناصر تحمي الريع والفساد، وأنها أضحت مرتعا لحماية اللوبيات الاقتصادية، التي هي من تفصل الخطوط العريضة لقانون المالية لكي يخدم مصالحها، وهو ما زكاه بلاغ المجلس الوطني لحزب الاستقلال.
هاته الاتهامات الخطيرة التي أطلقها رئيس حزب مرشح لتصدر نتائج الانتخابات القادمة، ووزير سابق للمالية، ورئيس سابق للمجلس الاجتماعي والاقتصادي والبيئي لم تدفع النيابة العامة لفتح تحقيق حول حقيقة هذه الشخصيات وماهية هذه اللوبيات.
وطبعا لا رئاسة الحكومة، ولا وزارة الداخلية، ولا النيابة العامة، ولا "جبهة الإعلام المدافع عن المؤسسات ضد التبخيس" ،رأوا في تصريحات نزار البركة، او في بهدلة رئيس الحكومة يوميا، أو في اتهام أيت الطالب بتهديد صحة المغاربة، لم يروا في كل هذا تبخيسا للمؤسسات.
وحده انتقاد المؤسستين الأمنية والقضائية هو الذي يجعل جرم تبخيس المؤسسات ثابتا.
والحقيقة أن انتقاد رئاسة الحكومة أو وزير الصحة، كما انتقاد الداخلية أو الأمن او القضاء هو من مشمولات حرية التعبير، التي لا تعترف بقداسة او حصانة أي مؤسسة، او أي مسؤول سام.
لا ننكر أن المؤسسة الأمنية عرفت في السنوات الأخيرة مسلسل عصرنة شامل، وأنها حققت نجاحات في مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، وأنها حازت اعترافا دوليا بحرفيتها في التعاون الأمني.
ولا يوجد عاقل لا يتمنى ان يكون أمن بلده قويا ومحترفا، فتلك واحدة من أهم علامات الاستقرار.
لكن إذا استعرنا من الدستور مبدأ "توازن السلط" ، فيلزم اليوم أن نتحدث عن ضرورة توازن المؤسسات وتكاملها. لا هيمنة مؤسسة على الأخريات، او التنازع بينها.
فلا يستقيم أن يتواصل إضعاف مؤسسات رئاسة الحكومة، والبرلمان، والتعليم، والصحة، وأن ينظر إليها كعبء يجب التخلص منه، فيما يتم إنتاج خطاب تمجيدي حول المؤسسة الأمنية، وهو خطاب قد لا يكون في صالحها، لأنه يحملها ما لاطاقة لها به، ويجعلها في مرمى النيران.
إن إضعاف باقي المؤسسات، هو مدخل لأمننة كل القطاعات، مما سينهك عاجلا أم آجلا عمل المؤسسة الأمنية نفسها.
فالديموقراطية، والتعليم الجيد، والتنمية المستديمة، وسهولة وصول المواطنين للعلاج، وتوسيع سوق الشغل، كلها مداخل مستدامة لتحصين المجتمع من نزوعات العنف والتطرف والجريمة، مما يقلص من تدخل الفاعل الأمني، أما الاستمرار في الوضع الحالي، فكيفما كانت قوة المؤسسة الأمنية فإنها لا يمكن أن تقوم بالوظائف العلاجية، لأن عقيدتها في كل دول العالم هي أمنية وردعية،،
واستمرار فشل المنظومة التعليمية وحده مثلا، يقود لتفريخ فائض من المجرمين، ولن يجدي في شيء آنذاك تحويل البلد لمخافر شرطة وسجون.
لقد فشلت مؤسسات الدولة السياسية (او تم إفشالها) في تدبير احتجاجات الريف وجرادة،وتكلف الأمن بإنهائها، وقد نجح في ذلك، لكن هل عالج أسباب الاحتجاجات؟ وهل يعني الحل الأمني أنها لن تعود في صور أخرى قد تكون أكثر راديكالية؟
للأسف اليوم يدفع الأمني ثمن إضعاف السياسي والثقافي والتربوي،كما يدفع ثمن خطابات تمجيده في مقابل تسفيه باقي القطاعات، ولذلك هو اليوم في مرمى فاعل نبت فجأة (ومنه من تم استنباته)، تحت مسمى اليوتوبيرز.
هؤلاء الذين استفادوا بدورهم من اجواء الترهيب التي طالت الفاعلين السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، والتي دفعتهم نحو خط الرقابة الذاتية، التي تحولت بدورها إلى صمت، فنبت هؤلاء اليوتوبيرز وملأوا الفراغ، فمنهم من يوزع الاتهامات، ومن تتباهى بحصولها على أحكام قضائية قبل الإعلان عنها، ومن يشهر بأسماء شخصيات أمنية وقضائية واقتصادية، ومن يعارض بنفس راديكالي يخترق كل الخطوط الحمراء.
ولا تميز بينهم المبتز، من الصادق، من المهرف بما لا يعرف، من المدفوع في حرب تصفية الحسابات، وهلم إشاعات واتهامات وتشهيرا طال حتى شخصيات ترتعد منها فرائص الإعلام المكتوب والسمعي البصري. وتحول معهم اليوتيوب إلى منصة للمعارضات الجديدة، كما سوقا للابتزاز وتصفية الحسابات
وللأسف، ففي الوقت الذي استعادت الدولة بعضا من شرعيتها إبان المرحلة الأولى من تدبير الجائحة، ثم كونت شبه إجماع بعد التدخل لتأمين حركة المرور بمعبر الگرگرات، يتم الضرب في كل هذه التراكمات عبر "نزق" بث فيديو مهين للكرامة،،
وفي الوقت الذي كان الأمر يتطلب تدخلا جراحيا سريعا لتطويق ما حصل عبر فتح تحقيق وترتيب المتعين قانونيا، كبرت كرة الثلج، وتم تجنيد صحف ومواقع ويوتوبيرز لمهاجمة هذا وتبرئة ذاك.
هل كان الأمر يستحق بلاغا من الداخلية بعد مرور أيام من الواقعة؟ وهل كان يتطلب حوار مسؤول امني سام مع قناة وكالة الأنباء الرسمية؟
من ورط الدولة والمؤسسة الأمنية وجعلهما وكأنهما في موقع دفاع؟
اليوم يتحدث الناس عن إعلام محمي وإن خرق القانون جهارا نهارا، وعن نيابة عامة تتعامل بانتقائية. وهم يقارنون تهاطل بلاغات النيابة العامة في ملفات الريف وبوعشرين والريسوني والراضي، وصمتها عن "تعرية" مواطن جهارا نهارا، ولولا تصريح مسؤول أمني لما عرف الرأي العام ان النيابة العامة امرت بفتح تحقيق.
الناس تترقب اليوم تطبيق القانون في نازلة الفيديو وما جاوره، كما يترقبون خلاصات البحث في نازلة امينتو حيدر، إنه امتحان لمؤسسات يضعها نزق البعض في مواقف محرجة، في وقت يواجه البلد تحديات اكبر وأخطر.
وليس هناك تبخيس أكبر من جعل مؤسسات حساسة في فوهة مدفع بسبب مواضيع صغيرة.
خالد البكاري/ جريدة "أخبار اليوم"
عدد الأربعاء 09 دجنبر 2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق