عبد النور الزاهي تاليوين
أول حملة انتخابية ارتبطت بها عقولنا في منطقة تالوين ونواحيها هي الحملة الانتخابية البرلمانية لسنة 1984م بالشكل المثير الذي تشهده الحملات الانتخابية لما بعدها فصاعدا، سيارات فخمة وعربات متنوعة وشاحنات، زخم بهرجة ضجيج جلبة وصياح، نيران الحملة المستعرة يَرتفع دخانُها إلى السماء ويُسمعُ حسيسُها من مكان بعيد، مواكبُ وحفلاتُ شاي وشرب وأكل ورقص، خطابات مرتجلة يُلقيها الأميون والمتعلمون والفقهاء، وعود حقيقية وباطلة تطلق هنا وهنالك، مواعيدُ عُرقوب مضروبة لهؤلاء وهؤلاء وأكاذيبُ وحِججُ وكل إناء بما فيه ينضح... ولم تكن أيادي المرشَحين البرلمانيين في قرية تالوين ونواحيها مُسَخرة للتلويح فقط والمصافحة و توزيع الأوراق المعنوية والمالية فحسب، بل كانت كذلك مسخرة للضرب على البنادر والطبول في رقصات الذكور (أحواش) ورقصات الإناث (إكوالن) وقد تكون ثمة محاولات لنظم الأشعار، فبالتأكيد يجب أن يعبر المرشَحُ عن انتمائه إلى المنطقة وانصهاره الكلي في التقاليد والطقوس المعيشية والاحتفالية لأهلها حتى ولو كان ذلك على حساب التخدير وتقليب الأبصار والأمور.
اتُخذَ للحملات الانتخابية بقرية تالوين ونواحيها إستراتيجية خاصة بحيث كان الاهتمامُ كلُه أو معظمه يصب في استقطاب الأصوات الانتخابية في كبريات المداشر والمواضع التي تميزها الكثافةُ السكانية الكبيرة وهي التي كان الاتحاديون الدستوريون بالخصوص، أثناء الحملة الانتخابية لسنة 84م، يجعلونها نُصْبَ أعينهم وقبلة لهم، ونضرب مثلا عن تلك المواضع بدوار أورست وإمكون في جماعة تاسوسفي ودوار إغري ومواضع تنفات بجماعة سيدي احساين ودوار أكادير نايت الطالب وإغيل نوغو بجماعة زاكموزن ودوار إحلوشن وتميشا بجماعة تزكزاوين وهلم جرا.
ورياح الحملة الانتخابية لسنة 1984م هي التي حملت التغييرَ لمنطقة تالوين ونواحيها، غير أنني لا أستطيع الآن أن أصنف ذلك التغيير هل هو التغيير المنشود أو غير المنشود، كل ما أتذكره في تلك الحملة وأهلها وانتخاباتها ونتيجةِ صناديقها أنها قد تغيرت من خلالها الألوان من الأزرق إلى البرتقالي ولم تكن الرموزُ بعدُ يُعتدُ بها في البرامج والصور والأوراق والملصقات، فلا حصان يركض ولا حمامة تطير بجناحيها ولا غراب ينعق، لا نحلة تعْسُلُ ولا نخلة ولا جملُ، لا ميزان منصوب ولا ورود ولا رسالة مفتوحة...
ولم يكن السباقُ أو الصراعُ الانتخابي بقرية تالوين ونواحيها في تلك الحملة مشتدا ومُحتدَما إلا بين حزبين رئيسيين كانا في البلاد كلِها عندئذ يشكلان الأغلبيةَ ويحصدان الكثير من الأصوات الانتخابية في مشارق الأرض ومغاربها هما حزب التجمع الوطني للأحرار يرفع الراية الزرقاء المفتوحة، تأسس سنة 1977م بإيعاز من الراحل الحسن الثاني ولم يكن مؤسِسُه وأمينُه العامُ غيرَ صهره أحمد عصمان، وإلى جانبه على الساحة الانتخابية الحزب اليميني الذي تأسس كذلك بإيعاز من القصر سنة واحدة قبل خوض المعركة النيابية لسنة 84م خرج إلى الوجود يحمل اسمَ الاتحاد الدستوري يرفع الراية البرتقالية ويرأسه مؤسسُه وأمينه العام المعطي بوعبيد.
والشخصيتان الأساسيتان البارزتان الممثلتان لهذين الحزبين في الحملة الانتخابية بقرية تالوين ونواحيها لنفس الدورة الانتخابية التي نحن بصددها هما السيد محمد بن الطالب التجمعي وهو النائب البرلماني المعلن عن فوزه بدائرة تالوين في الدورة الانتخابية البرلمانية لسنة 1977م ومنافسه القوي السيد حسن اليماني الدستوري.
انتهت الحملة الانتخابية وفُتحت مكاتب التصويت واقترع الناس وأفرزت الصناديقُ النتيجةَ معلنة عن انتهاء دورة الأحرار النيابية ومؤشرة عن فوز مرشح الاتحاد الدستوري نائبا برلمانيا لقرية تالوين ونواحيها ففرِح من فرِح وحزِن من حزن واغتاظ من اغتاظ وبقي من بقي ورحل من رحل.
في تلك الحملة الانتخابية لم نكن، ونحن صغار، نرى الأوراقَ الملونة تُوزع بين الناس وتنتقل بين الأيادي فحسبُ، بل كنا كذلك نشهد حملة انتخابية مسموعة موازية، نرى هذه أعيننا ونسمع تلك بآذاننا، الحملة الانتخابية المسموعة كانت تُمارس على الهامش ويهدف الذين يحبون أن تَشيع فتنتها بين الناس إلى تعظيم الشخصية الانتخابية في أعين الناخبين، يريدون أن يكللوا ويتوجوا رؤوسَ هذه الكائنات الانتخابية التي جاؤوا يتبعونها من الوراء ويستجدون لها الأصوات وينعتونها بالصفات الجميلة والأخلاق الحميدة والألقاب الوازنة والمهمات الصعبة والجذابة، ومن أهم ما زلت أذكره إلى اليوم من ضروب تلك الحملة الدعائية وألغازها المستعصية عن فهم دورها وآليتها في البرنامج الانتخابي لكل حزب أنهم كانوا يقولون إن هذا الشخصَ، ويقصدون مُرشَحَ الأحرار، على علاقة وطيدة بأحمد عصمان ومحمود عرشان، فالأول كما يزعمون هو صهر الملك الحسن الثاني وذراعه الأيمن والثاني هو الدكتور المعالج للملك، ثم يقولون إن هذا الشخصَ، ويقصدون المُرشَحَ الدستوري، كان من أقرب المقربين إلى الأمير الراحل مولاي عبد الله وبينهما غير قليل من المشاريع الاقتصادية المشتركة... حتى عندما حلت الدورة الانتخابية البرلمانية لسنة 1997م لتغير الألوان من جديد وتسفر عن نتائج انتخابية جديدة بحيث تحولت المعركة النيابية من الساحة البرتقالية الدستورية إلى الساحة الحركية الخضراء الباهتة حضرت بقوة إرهاصات الحملة الدعائية نفسها بالحدة ذاتها فكانوا يقولون إن مرشحَ الحركة الفائز في الانتخابات وكان قيد حياته يُدعى الحسين الصغير من بلدة أولوز، قالوا إن هذا الأخير ووزير الداخلية والإعلام المغربي الأسبق الشهير ادريس البصري هما سواء بسواء، بل كانوا يحدثون الناس عن اليد المباشرة لهذا الوزير في ذات الحملة الانتخابية بقرية تالوين ونواحيها، وسواء أكان ذلك صحيحا أو مفبركا فإن الطامة الكبرى أن تجد الحملة على الساحة آذانا صاغية وقلوبا مصدِقة.
وإني لأجدُ ريحَ هذه الحملة الانتخابية الدعائية المسموعة والمسمومة إلى يوم الناس هذا مُشاعة في الحملات الانتخابية وألمسُ روحَها ينتشر بين بعض الفئات من الناس مع أن المتحيزين يحاولون أن يُفَنِدون، وكم سمعنا من قيل وقال عن مصمِم الجرار ومؤسس حزب الأصالة والمعاصرة وأمينه العام قبل أن يتزحزح ويُخلعَ برياح الفبرايريين، يتحدثون بإسهاب عن هذا العالي الهمة وعن كونه من أقرب المقربين إلى ملك المغرب محمد السادس، بل هم كانوا يقولون إنه الأقربُ وكفى، ونشروا إذ ذاك صورا تجمع الملكَ والصاحبَ بالجنب أو مثنى على السيارات الشخصية الفخمة، وربما فإن هذه الريحَ العقيمَ التي كان المرجفون في القرية والمدينة والمغرضون يُسَخِرونها في الحملات الانتخابية قد وصلت إلى أنف الملك ذاتِه وداعبت خياشيمَه فكان ما كان من خطابه الأخير وألقى فيه ما ألقى..
ومنتهى الغباوة والحماقة والجنون في الطقوس الديمقراطية لأي بلد، خاصة تلك التي ما تزال تنشد أو تشم الديمقراطية من بعيد، أن يُقرن المرشَحُ برموز السيادة أو يُنظرُ إلى أمواله وأثوابه وشكل حذائه اللامع ووظائفه ومعامله دون مناقشة مبادئه وسلوكه وسيرته الذاتية وبرنامجه الانتخابي..
الحملات الانتخابية القديمةُ كنظيراتها اليوم تماما، كل حزب بما لديهم فرحون، البرامج السياسية للأحزاب المغربية تَعِدُ بالحياة الطيبة لا على الأرض بل فوق السحاب إلى جانب النجوم والشمس والقمر إذا تلاها، ولكن أيها السادة، أيها المغاربة، أيها المصوتون والمقترعون، إن لكم في وجوههم وسِيَرِهم الذاتيةِ لعبرة، فلا يكفي أن يأتيَنا أمينُ عام أو رئيسُ هيئة حزبية أو مرشَح أو تابعُ أوتابعُ التابعين لينادي علينا بألسنة حريرية وهي في أصلها حِدادُ ويقول سنفعل هذه ونترك هذه، هذه حرام علينا دينيا وقانونيا وحلال علينا سياسيا وعُرفيا..
إنني لا أجد ما أضرب به المثلَ عن وجوه وألسنة رؤساء وزعماء الأحزاب السياسية والمرشحين وهم يشدون الرحال إلى قرية تالوين ونواحيها هذه الأيامَ في ظل هذه الحملات الانتخابية المسعورة وهم يتشدقون ويَعِدون ويتوعدون إلا بموقف ابن سيرين رحمه الله تعالى مثلا، ذلك المفسرُ العظيمُ الشهير في تأويل الأحلام، موقف تفسير مع شخصين أتياه يطلبان منه التأويلَ لحُلُمَيهما، كلاهما حلم أنه في منامه يرفعُ الأذان، ولكنَ محمدا بنَ سيرين رضي الله عنه أوتي من حكمة تفسير الأحلام ما لم يؤتَ أحدُ غيرُه فقال لأحدهما أبشِر فإنك بإذن الله ستحج البيت هذا العام وقال للآخر أنفر فإنك ستدخل السجنَ عما قريب، فتعجب الحالمان الاثنان وقالا له: يا شيخُ كيف جاءت تفاسيرك متناقضة تماما في تأويلك لِحُلُمين متشابهين في الكلمات والعبارات؟ قال لهما رضي الله عنه: إن تأويليكما كليهما اقتبسته من القرآن العظيم وقد ورد في موضعين مختلفين فيه ذكر للأذان الأول عن الحج في قوله تعالى (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا) والآخر عن السرقة في قوله تعالى (وأذن مؤذِن أيتها العيرُ إنكم لسارقون).
لقد نظر بنُ سيرين رحمه الله تعالى في وجهي المؤذنين فرأى ذلك الذي يحمل وجها بشوشا يليق بالحج والكعبة المشرَفة وبشره البشرى السارةَ، ثم رأى ذلك الذي يحمل (وجه الحبس) بالتعبير المجازي للمغاربة فبشره البشرى السيئة، نعم فكلمات وعبارات الأذان واحدة كلها تنادي (حي على الصلاة، حي على الفلاح)، ولكن ما شأن القلب الذي يدفع بهما إلى آذان الناس؟ فقد يكون المبنى شكلا ويكون المعنى شكلا آخر وذلك شأن البرامج السياسية عند معظم الأحزاب إلا من رحم ربُك وقليل ما هم.
هكذا أيها الأحباب يجب أن نتعامل مع وجوه الحملة الانتخابية بتقصي الحقيقة وقراءة ما بين السطور بنور الأبصار قبل عيون الجماجم.
وأحب أن أقُصَ عليكم هذه الأقصوصةَ الواقعيةَ لنختم بها عن الحملة الانتخابية في ربوع تالوين ونواحيها لأنني ألمس فيها بعضَ الشيء من الحكمة والخبرة في النفاق السياسي أو هكذا أعتقد ولا أُلزم بالرأي أحدا، حكمة قول بليغ في جواب رد به أحدهم عن سؤال لأحد المعنيين المباشرين بعملية الانتخاب لدورة برلمانية سابقة، قال له المرشَحُ قف معنا وبجانبنا في هذا الأمر الانتخابي لنتجاوزه بسلام فرد عليه قائلا: اسمعني يا سعادة المرشَح واسمح لي أن أنصحك، لا تخشى ذا شر أبدا خارج هؤلاء المحيطين بك الذين يهتفون باسمك، فإنهم يساندونك وإذا قُدِر أن تنجح بجهودهم أو بغيرها فهم من سيتربصون بك الدوائرَ في الدورات المقبلة وسيعملون على الإلقاء بك إلى الحضيض، ولم يكن بين المقربين من ذلك المرشَح في ذلك العهد إلا أغلب من لا زلنا نراهم اليومَ رُؤساءَ للجماعات أو الجمعيات أو الهيئات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق