بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 10 يونيو 2019

محاكمة سقراط ؛ عندما يتحالف الجهل لاغتيال العقل ..

نتيجة بحث الصور عن للأستاذ سعيد العنزي
مركزتيفاوت الإعلامي
للأستاذ سعيد العنزي
خمسمائة قاض و قاض جلسوا ، الواحد بجانب الأخر ، على المدرج ذي المقاعد الخشبية المغطاه بالحصر ، و في مواجهتهم ، رئيس المحكمة محاطاً بكاتبه و الحرس . و في أسفل المدرج وضع الصندوق الذي سيضع فيه القضاه أحكامهم بعد انتهاء المحاكمة . الجلسة ستكون علنيه . و لا يسمح فيها لغير الرجال بالحضور . أما الطقس ، فقد كان جميلاً ؛ و هو ما أدخل الإرتياح الى نفوس الجميع وجعلهم يأملون بجلسة كاملة لا يربك مجراها مطر يهطل على الرؤوس أو برد يعطل تواصل الأفكار . واذا بدا لنا ان انعقاد محكمة في الهواء الطلق أمر مستغرب بل و طريف جدا . اليوم ، فلنتذكر إننا في أثينا ، في صباح من ربيع عام 399 قبل الميلاد .

اثينا هذه التي قدمت الديمقراطية للعالم ، تعيش فترة عصيبة ، لقد هزمتها سبارطة في حرب دامت بينهما سبعاً و عشرين سنة ، و فرضت عليها شروطاً قاسية . منها نظام " الثلاثين مستبداً " بقيادة أحد أبنائها ، المعروف ب " كرينياس " ؛ الذي تخلص منه الأثنيون منذ وقت ليس ببعيد . في هذا الجو من القنوط الوطني . كثرت الأحقاد و تعددت حوادث تصفية الحسابات من طرف الغوغاء و السفسطائيين خصوصا ، لكن العدالة ظلت تعمل والقضاة في أثينا ، و عددهم ستة ألاف ، و مواطنون متطوعون يجري إخبارهم سنوياً بشكل عشوائي ، و هم يوزعون ، بعد الإختيار ، في اثنتي عشرة محكمة في كل واحدة منها خمسمائة قاض و قاض ..

المحاكمة تحت تأثير الجهل المقدس ..

متهم اليوم شيخ ذو لحية بيضاء و ثياب رثة . إنه إبن النحات " سوفرونيسك " و السيدة الفقيرة التي تعمل كاقابلة " فيلا ريت " و هو المجرم الملقب بسقراط ؛ و الذي ينشر الفاحشة و يستعدي الآلهة و يكره الغوغاء . لكن ما هي التهمة التي سيحاكم اليوم على اساسها المتابع قضائيا امام محكمة اثينا بتهمة " زعزعة عقيدة المومنين و نشر الفتنة ؟؟

المتهم سقراط إتهمه أحد المواطنين ، و يدعى " مليتوس " ، بالكفر بالألهه و بإدخال شياطين جديدة الى المدينة و إفساد الشباب و الكهول . و هي تهمة تستحق عقوبة الموت وفق فصول المتابعة . فمن هو سقراط هذا ؟؟

سقراط رجل بلغ السبعين من عمره ، قبيح المنظر ؛ بعينية الجاحظين وأنفه الأفطس و وجهة الممتلئ ، ناهيك عن ثيابه المهملة و المكونة من معطف صوفي لا أزرار له و لا حزام . و فوق كل ذلك ، فأنه لا يمشي إلا حافي القدمين ، في الصيف كما في الشتاء . و لد سقراط في أثينا عام 469 ق.م في عائلة تعمل في النحت ؛ و عبثاً حاول أبواه تعليمه هذه مهنة . كان لا يميل إلا للحوار ومناقشة الآخرين حول مختلف المواضيع داعياً إياهم إلى التفكير معه و التأمل . كان يجوب المدينة يتحدث إلى المارين و يستوقف الشباب يفقههم في أمور الوجود و جوانب الحياة . وأثينا في ذلك العصر كانت تعيش ارهاصات الديموقراطية ، و كانت تعج بالفلاسفة و رجال السياسة و الأخلاق . و كان الناس يسعون إليهم لياخذوا عنهم أصول الفكر ، و كان هؤلاء يتقاضون عن تعليمهم أتعابا باهظة في معظم الأحيان من خلال المتجارة بالاخلاف . أما سقراط فكان يرفض بيع فكره ، و كان يعتبر أن الفلسفة ممارسة عضوية و يومية ، و أنها و بالتالي ، نمط حياة و اتجاه عيش . و غنى عن القول أن سقراط لم يكن مواطناً أثينيا كالآخرين . فهو لم يأبه لماديات الدنيا ؛ على الرغم من زواجه وإنجابه ثلاثة أولاد ، بل كان دائم الزهد في ما يشغل الناس . و هذا ما جعله غامضاً ، بل و موضع سخرية في الكثير من الأحيان ، خصوصا من لدن مرتزقة القول المشككين في النزاهة الفكرية التي يجهلونها . غير أن سقراط لم يعدم وسيلة لتوضيح حقيقة أمره ، و كان يرد على مسامع محاوريه أن حقيقة الهية تدفعه للتصرف ، و ان هذه الحقيقة يمكن أن لا تكون سوى ضميره القابع في أعماق نفسه . تلك المشاعر و هذه الأفكار هي التي لم ترق للبعض ، و هي التي أوصلته لأن يمثل اليوم أمام المحكمة وفق فصول المتابعة ، باعتبار انه " يفسد الشبيبة و لا يؤمن بآلهة المدينة " .

جاهزية الملف ..

في بدء الجلسة ، و لم يكن في نظام المحاكمات آنذاك ما يسمى اليوم بالإدعاء العام ، وقف المدعي الأول " مليتوس " يتكلم عن مفاسد سقراط في المجتمع . و أعقبه مدعيان آخران " ليكون " و " انيتوس " ؛ و كلهم طلبوا الحكم بالإعدام على " العجوز الشرير " ؛ مفسد الشباب و عدو الغوغاء . و ل " أنيتوس " هذا مبرر آخر للادعاء على سقراط ؛ حيث كان ابنه تلميذا من تلاميذ الفيلسوف سقراط و " مضللاً به " . و هذا ما يفسر انشغاله عن صنعة أبيه وهي الإتجار بالجلود . يضاف إلى ذلك أن سقراط تهكم عليه مرة أمام الناس خلال مناقشة ظهر فيها الجاهل وحديث النعمة على قدر كبير من السخف . و من سوء طالع العجوز أيضا ، أن " كريتياس " ، المستبد الدموي والعميل لإسبارطة ، كان من بين تلاميذه ، في فترة من فترات حياته . اتخاذه كريتياس وآخرين غيره ممقوتين في مجتمعهم تلامذة له هو من قبيل انفتاحه على الجميع ودون النظر إلى أرائهم السياسية و الفلسفية ، أو إلى نمط الحياة التي يعيشون . و إذا توخينا الإختصار ، قلنا أن سقراط ، بأفكاره و مناقشاته و دفوعاته بأكورا اثينا ؛ بدأ يصبح شخصاً مزعجاً للسلطة و لعموم الغوغاء و ل " الدوكسا " ، ليس للسلطات فقط ، بل للآباء الذين رأى بعضهم أبناءهم يخرجون عن طاعتهم و يلحقون بالمعلم سقراط .

الكلمة للمتهم ..

بعد انتهاء المدعين الثلاثة من كلامهم ، جاء دور المتهم . و من إجراءات المحاكمة الأثينية في ذلك العصر أن يتولى المتهم شخصياً الدفاع عن نفسه . و إذا كان غير قادر ، فان محترفاً يقوم بتلقينه الدفاع وتحفيظه إياه عن ظهر قلب . يجب أن يستغرق الوقت الذي استغرقه الإدعاء لا أكثر . بدأ سقراط دفاعه برد التهم و من ثمة ، بالإنتقال إلى الهجوم ، قال إن من يدعي العلم ، من بين كل من ناقشت و حاورت ، و إنما هم جهلة و لا يفقهون من العلم شيئاً ، و الحقيقة هي أني أعلم الناس اصول الحكمة و الفهم . ذلك لأن الناس يعتقدون أنهم يعرفون شيئاً و هم ، في الواقع ، لا يعرفون أي شيء . أما أنا فإني اعرف أني لا أعرف . و انتهى سقراط بتحذير القضاة من الحكم عليه بالموت . و إن فعلوا فإنهم لن يجدوا مثله ، و سيغرقهم الإله و كل الأثنيين في سبات أبدي بسبب الجهل المقدس . أما إذا لم يفعلوا فسيعود إلى نشر أفكاره كما فعل دائماً و كما أوحى له ضميره . لم يستدر سقراط عطف القضاة كما يفعل عادة المتهمون الماثلون أمام مثل هذه المحكمة . لقد قال ما قاله و جلس دون أي انفعال . أما القضاة ، فقد بدؤوا ينزلون المدرج ليضع كل واحد منهم حكمه في الصندوق . هذا الاقتراع هو أولي . انه ينحصر في تقرير تجريم أو عدم تجريم المتهم .

صدور الحكم الإبتدائي ..

قضت نتيجة التصويت بتجريم سقراط بفارق بسيط في الأصوات ؛ 281 صوتاً ضد 220 . ويقتضى القانون الأثيني ، في هذه الحالة ، أن يعين المتهم نفسه العقوبة التي يراها ، هو مناسبة للجريمة المرتكبة . وقف سقراط ؛ ثم أعلن انه يسره أن تتعهده " البريطانية " ؛ ما دام الغوغاء و الجهلاء يحاربون العقل ! و فجأة ؛ تعالى الصخب و صياح الإستنكار من الحضور الذين رأوا في كلامه تهكماً و سخرية من هيئة المحكمة ومن كل الموجودين . ذلك لان البريطانية مؤسسة أثينية تتعهد الرجال العظماء و تتولى تأمين معيشتهم بشكل لائق و كريم .
ما أن سمع القضاة كلام سقراط ، حتى قرروا أن يصوتوا بأنفسهم على نوع العقوبة و مستواها . و فعلا نزلوا ثانية إلى حيث الصندوق و صوتوا على أن يكون الحكم بالإعدام هو الجزاء الذي يجب أن يناله سقراط وذلك بأغلبية كبيرة . لقد أوقع الرجل نفسه في التهلكة ، بعدما كان بإمكانه أن ينقذها بتصرف آخر . و بذلك أكد للجميع انه يسعى للموت بكل رغبة و حماس حتى لا يسجل التاريخ انه استعطف القضاء خوفا من الجهل المقدس .

الحكم مشمول بالنفاذ المعجل ..

مضى شهر على صدور الحكم . أما طريقة للتنفيذ فهي الأسهل من بين لائحة لا يخلو بعض بنودها من العنف ؛ ان يتجرع المحكوم عليه كمية من سم يحضر خصيصاً لمثل هذه الأحكام ، و سينفد الحكم خلال هذا الشهر .

الوفاء للمعلم ..

جاءه كريتون ، أحد تلاميذ سقراط المخلصين ، فعرض عليه أن يقبل الهرب من السجن ، بعد أن يتدبر كريتون أمر تقديم رشوة للحراس . لكن سقراط رفض بالمطلق قائلاً بوجوب احترام العدالة و قوانينها ، مهما كانت ظالمة حرصا على هيبة قضاء اثينا ، و حتى و لو كانت هذه القوانين جائزة .

في غياهب المعتقل ..

هذا الشهر الذي فصل بين صدور الحكم و تنفيذه ، أمضاه سقراط بهدوء أدهش المتصلين به من حراس و نزلاء ، و دون اي خوف او تردد . أما لماذا ابقي شهراً كاملاً ينتظر مصيره ، فهذا يعود إلى أن تنفيذ أحكام الإعدام لم يكن مسموحاً به في الشرائع الدينية آنذاك إلا بعد عودة الكهنة من جزيرة ديلوس .

تنفيد الحكم ..

في اليوم التالي لعودة الكهنة ، تجمهر تلامذته في السجن و وصلت زوجته كذلك . و ما إن رأته و الحراس يفكون أصفاده تمهيداً للإعدام ، حتى أجهشت بالبكاء و نتفت شعرها ومزقت ثيابها .
تأثر سقراط و طلب إليها أن تذهب . ثم إلتفت نحو أصدقائه وبدأ يحدثهم و يتناقش و إياهم في مواضيع مختلفة في الفن و الموت و الروح . و بينما هو كذلك ، إذ بالجلاد يقاطعه :

- لا تتحرك كثيراً يا سقراط ، وإلا يفقد السم مفعوله ، و للمرة الأولى ينفعل سقراط ويقول للجلاد :

- لماذا لا تضع كمية مضاعفة ؟ هذه مهنتك .
و عاد إلى التحدث مع تلامذته الذين لم يتمكنوا من إخفاء إعجابهم و دهشتهم .

لقد استطاع هذا الإنسان أن ينتصر على غرائزه و على مخاوفه . و عندما اقترب الوقت المخصص لتجرع السم ، دخل سقراط غرفة مجاورة ليستحم و هو يقول :

- أريد أن أوفر على النساء تنظيف جثة ميت . فأطال الإستحمام ، و الجلاد ينتظر على الباب . و لما خرج سقراط ، اقترب منه الجلاد و في يده كأس السم . قدمه إليه و قال له :

- سقراط أعرف انك لن تشتمني كما يفعل الآخرون . أنت عاقل و تستطيع أن تتحمل قدرك .

- مرحى لك ! هيا . ماذا علي أن افعل يا منفد الحكم ؟

- لا شيء سوى خطوات قليلة بعد التجرع . و عندما تشعر بثقل في ساقيك ، عليك أن تستلقي و الباقي يتولاه السم نفسه .

شجاعة العقل ..

تناول سقراط الكأس و تجرعه دفعة واحدة بكل هدوء . لم يتمالك تلامذته مشاعرهم فانفجروا يجهشون بالبكاء مثيرين غضب المعلم ..

- ماذا تفعلون ؟ لقد أمرت زوجتي بالرحيل حتى لا أرى ما يشبه مظاهر الضعف هذه . أريد أن أموت بصمت الخشوع . فتمالكوا مشاعركم .
و فعلا صمت الجميع فوراً . بعدها استلقى سقراط كما أشار جلاده . و جاء الجلاد يقيد رجليه ويقول له :

- هل تشعر بشيء؟

- سقراط يجيب ؛ كلا .

و طفق الجلاد يشرح للحاضرين أن الموت يصل إلى القلب بعد تبلغ البرودة الرجلين و البطن .
و عندما شعر سقراط بهده البرودة تصل إلى بطنه ، أشار إلى تلميذه المخلص كريتون بالإقتراب ليقول له بصوت ضعيف :

- كريتون ، في ذمتنا ديك لا يسكولاب . ادفع له ثمنه دون نقاش .

- كريتون ؛ حاضر يا استاذي ؛ هل تريد شيئاً أخر ؟

لم يجب سقراط . لقد أغمضت عيناه ..

" ديك لايسكولاب " ؛ إنها لا شك عبارة أراد بها سقراط التهكم على إله الطب . لم يوفر سخرياته على الآلهة ، حتى و هو على وشك أن يموت ! وما الموت بالنسبة له ؟ أليس هو التحرر ؟ أليس الشفاء من مرض هو الحياة ، كما كان يردد دائماً ؟

هذه الجملة التي قالها سقراط قبل موته ، والتي تمثل التشاؤم الهادئ والساخر بأبرز معانيه ، كانت عبارة رسالة من أول رجل أعدم في التاريخ بسبب أفكاره ، و كان اخر ما قال ؛ " ويل لرجل سبق عقله زمنه " ..

و فعلا نفد حكم الأعدام على شهيد العقل . مات سقراط على يد غوغاء أثينا الذين كانوا يعقدون المجالس يخططون للنيل من ناشر الحكمة . مات سقراط فظل اسمه حيا اكثر من جلاده ، و بقي مشهورا ، كنار على عالم ، أكثر بكثير من الجهلاء الذين اتهمومه . و هذا سعيد ألعنزي تاشفين يدعو الله سبحانه ان يرحم شهيد الحكمة و يسكنه فسيح الفردوس الأعلى . و منذ سقراط الى الأن ؛ لا يخلو التاريخ من اعداء العقل و من دعاة الجهل المقدس من الدوكسا المنحطين . و كل عاقل هو حتما كمثل سقراط ؛ و طبعا لكل سقراط جديد غوغاء تحاربه ؛ و العقل حجة ...

ليست هناك تعليقات: