مركزتيفاوت الإعلامي
رشيد الحاحي
حدث وملاحظة عابران لكن دالين جعلاني أطرح هذا السؤال: هل بدأت أنوار باريس تخفت؟
كنت جالسا قبل بضعة أيام بمقهى بجوار محطة مترو فولتير بساحة ليون بلوم بباريس، في انتظار وصول صديق، فتفاجأت بشخص بملامح يبدو أنه من أصول إفريقية كما يتأكد أيضا من لكنته العربية، يرتدي لباس رجال النظافة ويبدو أنه كان في وضعية عمل، وقف قبالتي على الرصيف، أثبت نظره اتجاهي بشكل مثير وعنيف، وصار يصرخ: "السلام أعليكم، السلام أعليكم...". نظرت إليه، وبعد تكرار العبارة ثلاثة مرات، أجبته "عليكم السلام"، فرد "هاك، هاك"، وأنصرف بسرعة.
نظرت إلى وجوه بعض مرتادي المقهى المندهشين، ألقيت نظرة اتجاه واجهة بناية بلدية باريس 11 المقابلة، تأملت في نتوءات وزخارف وجمالية البناية وامتدادها التاريخي، نظرت إلى لوحة المترو المحادية، تهجيت اسم Voltaire، تذكرت "بعض الأنوار" وقولته الشهيرة: "قد لا أوافقك الرأي، لكنني مستعد للموت دفاعا عن حقك في التعبير عنه".
تساءلت في نفسي: من غريب الصدف أن تجتمع كل هذه الدلالات، فهل صار إعلان الانتماء القومي والديني في الفضاء العام من شروط التجوال في مدينة كوسموبوليتية تحتضن كل أجناس العالم، في مدينة الأنوار التي منها انبثقت العديد من مفاهيم وقيم المدنية والحرية والعيش المشترك ؟
أما الملاحظة الثانية، والتي ألمتني شيئا ما أكثر من سابقتها لأنهما مترابطتين، أنه خلال قرابة أسبوع التي قضيتها بين شوارع وفضاءات ومتاحف وأنفاق مترو باريس لم أر سوى مرتين أو ثلاثة أشخاص يحملون ويطلعون كتبا، وكن نساء في عقدهن الخامس أو السادس! جل الشباب يضعون سماعات الهاتف بأذانهم، وبقية الأعمار أو الأجيال منقسمة بين الانشغال بالهاتف المحمول والترقب مع بعض الحذر! أما العادة البريسية، أقصد حمل الكتب ومطالعتها في المترو والباس والساحات...فقد صارت في طريق الانقراض مند سنوات.
راودتني العديد من ذكرياتي بباريس خلال سنوات نهاية التسعينيات وبداية القرن الحالي، تذكرت كل ما جرى خلال السنوات الماضية والأسابيع الأخيرة، تساءلت عن إرث وقيم الحرية والمساواة، عن أبعاد نقاش "البوركيني" وصراع الشواطئ، تأكدت أن باريس بدأت تفقد أنوارها، وأنها قد لا تعد كما كانت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق