مركزتيفاوت الإعلامي
عبد الله الحلوي
جملة ما أريد أن أبينه للقارئ الكريم أن اللغة الطبيعية في جوهرها آلة يخلق بها العقل الإنساني تصالحا Reconciliation بين مطلبين متعارضين: "مطلب الخطّية" و"مطلب الحَوسبة"، وأن عبقرية كل لغة من اللغات رهينة بأسلوب تحقيقها لهذه المصالحة بين هذين المطلبين. كما أريد، بإذن القارئ، أن أبيّن الأساليب التي استعملها العقل الأمازيغي لتحقيق هذه "المصالحة". المقاربة التي أستعملها هنا تعود في أصولها إلى لسانيين معاصرين اثنين: أولهما William O‘Grady وليام أي ڭرادي، لساني وأستاذ جامعي من جامعة هاواي، وهو صاحب كتاب Syntactic Carpentry "النجارة التركيبية" (2005)، وريتشارد كاين Richard Kayne، لساني وأستاذ جامعي من جامعة نيو يورك، وهو صاحب كتاب The Antisymmetry of Syntax "لا تماثل التركيب" (1994).
اللغة بصفتها حلٌّ لتعارض بين "الزمان" و"العقل"
اللغة في جوهرها حلٌّ ذكي لمشكلة معرفية ناتجة عن تعارض قائم بين ما يتطلبه التواصل مع ما تتطلبه الذاكرة القصيرة. فعندما تنطق بجملة مثل: "ؤر جّو تيلي تفروت دار ؤمزيل" (لم يسبق للحداد أن توفر على سيف) فإن المستمع لن يفهم معنى هذه الجملة إلا إذا تذكّر، عند استماعه لآخر كلمة (أمزيل)، كلَّ الكلمات التي سمعها قُبيل النطق بهذه الكلمة (ؤر + جّو + تيلي + تفروت + دار). فإذا لم يتحقق هذا التذكر السريع، سيكون من المستحيل تأويل معنى الجملة. وما يفرض هذا الإعتبار أن الجملة مهما كان طولها وتعقُّدها متوالية خطّية لكلماتها "قبلٌ" هو ما سبق، ولها "بعدٌ" هو ما لحق. وهذا هو جوهر ما سمّاه ريتشارد كاين (في كتابه The Antisymmetry of Syntax) بمبدأ الخطية. وتحقيق هذا المبدإ تحقيق ل"مطلب الخطية".
محتوى اعلاني
أما من جهة أخرى فإن الجملة نظام داخلي من العلاقات يُحَوْسِبُها المتكلم والمستمع حوْسبة، وذلك بتقدير العلاقات بين الكلمات، وتقدير ما أضْمر منها، وتقدير الموقع الأصلي لما انتقل منها من موقعه الأصلي إلى موقع آخر لأسباب معلومة.
فإذا قلت "ؤر جّو تيلي تفروت دار ؤمزيل"، فإنك ستقصد أن "تفروت" فاعل الفعل "تيلي" فتحذف صامت التأنيث الذي يتلو التاء (فصيغة المفعول به في هذه الكلمة عي "تافروت")، وستقصد أن مكان وجود "تافروت" الذي تنفيه بجملتك هو "دار ؤمزيل" (عند الحداد)، وبذلك فإنك تربط فعل "تيلي" بهذه الفضلة الدالة على المكان، فيلزُم عن كلامك أن مناط النفي هو النفي القطعي لتوفر الحداد على سيف. وهذا المطلب هو ”مطلب الحوسبة“.
بهذا المعنى، فإن في كل تعبير لغوي هو في جوهره حلٌّ لتوتُّرٍ طبيعيٍّ بين "مطلب الخطّية" الذي يفرضه اتجاه الزمن من "القبل" إلى "البعد"، و"مطلب الحوسبة" الذي يفرضه الذهن الإنساني وهو يقدّر علاقات معلومة بين ما تحتوي عليه الجملة من كلمات. "مطلب الخطية" يصعِّب عمل الذاكرة القصيرة كلما طالت الجملة ولكنه منسجم مع اتجاه الزمان. و"مطلب الحوسبة" لا تحققه خطّية الزمان ولكنه منسجم مع ما يحتاجه العقل من علاقات بين الكلمات. "مطلب الخطّية" يفرضه الزمان ... و"مطلب الحوسبة" يفرضه العقل: والتعبير اللغوي هو مُصالَحَةٌ للزمان مع العقل!
كيف تصالح الأمازيغية بين مطلب الخطِّية ومطلب الحَوْسبة؟
من الأساليب التي تستعملها اللغات لمصالحة مطلب الخطّية مع مطلب الحَوْسبة أنها لا تسمح في الجملة النّوَوية إلا بمحمول واحد فتربطه بملحقات وظيفية sattelites تحمل ما لا يستطيع هذا المحمول حملَه كقيمة الزمن وأوصاف الفعل. فعندما تقول "تكّتنت تْفروت آد تڭا تينو" (كان هذا السيف لي) فإن المحمول الذي يدور معه معنى الجملة إثباتا ونفيا هو "تينو". ووظيفة فعل "تكّتنت" حمل الزمن والدلالة عليه ما دام المحمول الحرفي "تينو" لا يستطيع حمل الزمن. ووظيفة فعل "تڭا" الربط بين الفاعل "تفروت" والمحمول "تينو". إلا أن ما يدل على أن الفعل الزمني "تكّتنت" يدل على زمان "تينو" وأن فعل الكينونة "تڭا" يربط المحمول "تينو" بالفاعل "تفروت" أن كل هذه الألفاظ تحمل نفس سمات التطابق، المفرد المؤنث، التي تدل عليها تاء التأنيث التي تتصدر هذه الألفاظ. فوظيفة التطابق الجُملي هو مَعْجَمَةُ العلاقة التي تربط بين المحمول وملحقاته، من جهة، وبين الفعل وملحقاته وفاعل الجملة، من جهة أخرى. فالتطابق، بهذا المعنى، تكرار خطّي للفاعل (وهذا استيفاء لمطلب الخطّية إذ يذكِّر الذاكرة القصيرة بالفاعل) يختزل الفاعل في حده الأدنى، أي سمات المفرد المؤنث (وهذا استيفاء لمطلب الحوسبية إذ يربط المحمول بفاعله).
والمبدأ الذي يتحكم في عملية التوفيق بين متطلبات الخطّية والحوسبة أن التطابق يسِم أكثر من لفظة واحدة إذا كان مناط كل هذاه الألفاظ محمول واحد ولها زمن واحد. لكن إذا كان المقصود من إدراج الملحق الزمني تغيير زمن المحمول، تخلّصت الجملة من التطابق. من ذلك مثلا قولك: "تّوخت يزدغ تاما ن تيمزڭيدا" (كان قد سكن أمام المسجد) تستعمل فيها الملحق الزمني "تّوخت" التي تتطابق مع المحمول "ئزدغ" للدلالة، لا على معنى "الماضي"، بل "ماضي الماضي".
وعندما يدل معنى الملحق الزمني على الحالة الحاضرة مع غياب محمول ظاهر، فإن الزمن يصبح جامدا (يدل على الحاضر حتى ولو كانت صيغته في الماضي) مع احتفاظه على التطابق مع الفاعل. من ذلك فعل "يوماس، يمس" لا يستعمل إلا في الماضي حتى ولو كان المقصود هو الزمن الحاضر. ويغلب استعماله في الجمل الإستفهامية "ما يمس نتّا؟" (ماذا يكون هو؟). "أكّو ما يمس نتّا" (فليكن من يكون!). وصيغة الجمع: "ما يمسين نتّني؟" .. مما يعني أن التطابق ثابت.
من صيغ مصالحة الخطّية بالحوسبة في اللغة الأمازيغية أيضا أنها تعطي للوصف صيغة فعلية حاملة للزمن تستطيع أن تنجز وظيفتين في نفس الآن، وظيفة التطابق مع الفاعل ووظيفة حمل الزمن. من ذلك قولك مثلا "ئيمزّي واسيف" (النهر صغير)، "تضّرضر تمطوت" ("تامغارت") (المرأة طرشاء)، "ئضّرغل ورڭاز" (عمي الرجل)، "ئغزّيف ييض" (الليل طويل). وإذا سحبت من الوصف وظيفة الزمن، ستكون مضطرا لإلحاقها بملحقة وظيفية جديدة (مثل الفعل "ڭ" الدال على الكينونة) تقحمها في الجملة إقحاما فتقول: "ئڭا أغزّاف" (هو طويل)، "ئڭا أبوكاض" (هو أعمى)، "ئڭا ألوماض" ( هو أمرد)، "ئڭا أڭرّوج" (هو أقعن).
ومن الأدلة الأخرى على أن دور التطابق في الأمازيغية هو تحقيق المصالحة بين الخطّية والحوسبة أن غياب التطابق (تطابق "الشخص" تحديدا) بين الفعل والفاعل يُفقد المحمول وظيفته بصفته محمولا فيصير مجرد نعت يُكوّن مع منعوته مركبا اسميا وليس جمة مفيدة تُثبت وتُنفى. وهذا بالضبط ما يحدث عندما تُنوّن الأفعال الأمازيغية فتصير نعوتا تسبقها منعوتاتها، كما في قولك: " أسيف ئيمزّين" (النهر الصغير)، "تمطوت ئضّرضرن" (تامغارت) (المرأة الطرشاء)، " أرڭاز ئضّرغلن" (الرجل الأعمى)، " ييض ئغزّيفن" (الليل الطويل) .. فكل تلك مركبات إسمية وليست جملا تُثبت وتُنفى.
فتأمّل في البيت الشعري التالي لترى بعض النتائج الأسلوبية لإمكان "تزمين" الفعل بالتطابق ورفع الزمنية عنه ب"التنوين". يقول الشاعر:
زوند والّي يوفان أمصمار ن تسولا جلوناس
أور يادلّي يوفي يات ؤراس ئجلي يات.
(كمن وجد مسمار حذوة حصان، ففقدها بعد ذلك
ما وجد شيئا إذ وجد وما فقد ما وجد)
فعل "يوفا" في البيت الأول غير زمني منوّن إشارة إلى أن المعنيَّ هو من وجد مسمارا في أي زمان من الأزمنة. أما في البيت الثاني، فالفعل يحمل قيمة زمنية، فهو في الزمن الماضي المكتمل للدلالة على عدم حصول النفع حقيقة وفعلا لمن لم يسعفه الحظ لأن يجد مسمارا من مسامير حذوة الحصان. فالتعارض الدلالي بين "يوفان" و"يوفي" هو تعارض بين ما يحتمل وقوعه في أي زمان، ووجوب ما سينتج عن هذا الوقوع.
وهذا مثال شعري آخر:
ئڭا لمخزن يات تّمدا ن وامان ئحرّان
ڭين ئمغارن تيضّا ؤرا سول ئسّا يان
المخزن ضاية ماء مُرة
والقوّاد علق فلا يرتوي أحد ..
يُزمّن الشاعر الفعل "ئڭا" لأن المحمول إسمي ("يات تّمدا ...") لا يحمل زمنا في ذاته لانتفاء اتصافه بالحدثية. لكنه يستعمل وصف "ئحرّا" منوّنا لأنه متعلق بالمنعوت "أمان" فلا يسند له للإثبات.
ومن خصائص الأمازيغية ولطيف تعبيرها أيضا أنها تستعمل ملحقات حاملة لزمن مطلق لا تتطابق مع الفعل، وهي "دال الإسناد" كما في قولك: "أزّار نّس د أملّال" (شعره أبيض). والفرق بين "دال الإسناد" وفعل "ڭ" أن الأخير يتطابق مع الفعل والفاعل ويُجوّز تقدير الفاعل كما في "ئڭا أمسّاروف" (هو غفور) حيث الفاعل مضمر مقدّر على غائب مذكر مفرد. أما دال الإسناد فلا تطابق فيها مما لا يسمح بإضمار الفاعل.
خلاصة
من مظاهر عبقرية اللسان الأمازيغي أساليبها في مصالحة "مطلب الخطّية" مع "مطلب الحَوسبة" ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق