
مركزتيفاوت الإعلامي
لحسن الجيت
في شهر رمضان الفضيل وهو شهر الرحمة بالعباد والرأفة بهم، خرجت علينا وزارة ما يسمى بالبيئة بالنبإ الصاعقة الذي أعلنت فيه، من دون أن يرف لها جفن أو يخفق لها فؤاد، أنها أبرمت صفقة "موبوءة" ستعمل بموجبها على استيراد نفايات من شركة إيطالية تدير مزابل بضواحي مدينة نابولي تدعى "تافيرنا ديل ري"وذلك على مدى ثلاث سنوات ليبلغ حجم النفايات المشمولة بالصفقة 25000 طن من السموم . والانطباع الذي أرادت الوزارة أن ترسخه في الأذهان وهي أن تلك النفايات غير مضرة بالبيئة. فهل هي بذلك تريد أن تستغفل المغاربة لكي يتوهموا أن تلك النفايات لربما قد تكون"صديقة للبيئة" وأن ما نزل على المغاربة قد يعد واحدة من النعم التي فتحت عليها السماء في ليلة القدر. وأن ما سخر لنا هو أن ننعم بمزبلة الطاليان لأن المزابل تنقصنا في المغرب أم أن أجسادنا اكتسبت ما يكفيها من المناعة من كثرة ما استنشقناه وما نحن فيه، وبالتالي لن تنال منا مزابل العالم كله ولو اجتمعت. وفي هذه الفرضية ستكون عندئذ وزارة البيئة محقة في كون تلك النفايات غير مضرة, وأن ّالميكا" المغربية أخطر من تلك النفايات التي أقامت عليها الوزارة الدنيا ولم تقعدها.
وإذا كان الخبر الصاعقة قد أثار شكا وريبة لدى الرأي العام المغربي، فإنه في نفس الوقت نعتقد أنه قد أثار عدة إشكالات من الناحية السياسية والدستورية وحتى الأخلاقية، وبالأخص أنه كشف عن وجود ثغرات وتجاوزات قانونية.
1 ـ الحق في المعلومة:
الواقع أن ما سلكته وزارة البيئة من نهج وأسلوب متبع في محاولتها لتبرير هذه الصفقة وتسويقها للمغاربة لهو خير معبر عن مدى تخلف القائمين على هذا القطاع وعن مدى استهتارهم واستخفافهم بعقول الناس وبالقوانين. فالأمر في غاية الأهمية كما هو في غاية الخطورة. وليس بلاغ تافه من صنف ما طلعت به الوزارة يمكن له أن يقنع المغاربة بصفقة مشبوهة. وإذا كانت الوزارة تحترم نفسها وتقدر المغاربة حق قدرهم وتريد أن تبتعد عن الشبهات، كان من الواجب عليها أن تعلل ادعاءاتها بالسند القاطع وبالبرهان الذي لا يعرف له الباطل سبيلا. فحينما تدعي الوزارة بأن تلك النفايات غير مضرة، فما هو إذن أساس ارتكازها؟ هل لديها شواهد مخبرية من مختبرات معترف بها دوليا تؤكد قولها، وإذا كان الأمر كذلك عليها أن تبرزها للرأي العام أو لسنا في مستوى أن نكون أصحاب حق في الحصول على المعلومة. أعتقد أنه دستوريا لنا الحق في ذلك بموجب الفصل 27 من دستور 2011 الذي ينص على الحق في النفاذ إلى المعلومة بمعنى"تعميم كل المعلومات المقدمة من طرف المصدر أثناء الإعلان عن الاستيراد". وإعمالا بذلك، فإن الوزارة التي يفترض فيها أن تكون حريصة على البيئة مطالبة بإخبار المواطن بأي إجراء له انعكاسات بيئية.
وفي هذا السياق، لوحظ كذلك خرق سافر لما هو متعارف عليه قانونيا بحيث أن الوزارة لم تراع مسطرة النشر والإشهار في عملية الاستخدام المرتقب لتلك النفايات في الدوائر الإدارية التي تنشط فيها مصانع الإسمنت حيث عادة ما توضع سجلات رهن المواطنين تتضمن ملخصا عن المواد المستخدمة أولا ليكونوا على علم بالشيء وثانيا ليسجلوا ملاحظاتهم حول تلك النفايات إما بالقبول أو الرفض. فهذه المسطرة على أهميتها والتي تندرج في باب العلم المسبق، لم تحترمها الوزارة ويسجل عليها خرق في هذا المجال.
2 ـ لماذا تولت الوزارة بنفسها عملية الاستيراد؟:
سؤال له ارتباط بكنه الموضوع. فالأصل في اختصاص الوزارة أنها لا تستورد، بل ما هو موكول إليها هو النظر في طلبات الخواص والشركات المتصلة بإقامة مشاريع والتأكد من مدى مطابقتها وملاءمتها للشروط البيئية. ومن أجل ذلك، تعرض تلك الطلبات على لجنة وطنية تضم ما يزيد عن عشرين ممثلا لمختلف القطاعات الحكومية تتولى دراسة المشاريع المعروضة عليها. وبعد التأكد من سلامتها البيئية بناء على وثائق ومستندات مخبرية ودراسات بيئية من مكاتب مختصة، تصدر الوزارة شواهد عدم المساس والإضرار بالبيئة.
أما أن تتولى الوزارة بنفسها استيراد مواد أو نفايات لفائدة مصانع كمصانع الإسمنت كما هو الشأن في الحالة موضع هذا البحث، فالأمر إذن يحمل على الاعتقاد بوجود شبهة. لماذا الوزارة وليست تلك المصانع حيث كان من المفترض على هذه المعامل أن تكون طرفا في صفقة مع تلك الشركة الإيطالية وليس وزارة البيئة كجهة حكومية. وحتى ولو سلمنا بوجود شراكة، فما المانع من أن تتولى مصانع الإسمنت تلك الصفقة، فيما يبقى دور الوزارة هو التأكد من السلامة البيئية لتلك النفايات.
ثم من تكون هذه الشركة النابوليتانية التي أبرمت معها الوزارة تلك الصفقة؟ فبالعودة إلى عشرين سنة الماضية، قامت إحدى مافيا مدينة نابولي وتسمى "كامورا"، شركة متخصصة في بيع الممنوع، بالتعاقد مع أكثر من 440 شركة لدفن نحو 10 مليون طن من النفايات الصناعية بطريقة غير شرعية في منطقة نابولي وحدها مما أدى إلى إتلاف وتسميم أراضيها الزراعية. أما عملية إحراق الملوثات في أماكن غير معدة لها فقد أدى كذلك إلى انتشار غازات "الديوكسين" السامة مع ما تسببه من عواقب خطيرة على صحة الإنسان. وأفادت التقارير الدولية في هذا الصدد، وعلى رأسها تقارير المنظمة العالمية للصحة أن مطارح "نابولي" تحتوي على مواد سامة تسببت في أمراض مستعصية كسرطان الكبد والرئة وأمراض خطيرة تهدد الجهاز التنفسي.
3 ـ موقف القضاء الإيطالي والأوروبي من تلك النفايات:
ما يفيد أن هذه النفايات، التي تورطت فيها الوزارة، بالفعل أنها مضرة هي تلك الأحكام التي صدرت بحقها سواء من طرف القضاء الإيطالي أو الأوروبي. وقد سبق لأعلى هيئة قضائية في إيطاليا أن أصدرت حكما بمنع ردم تلك النفايات في التراب الإيطالي. كما اعتبرت السلطات الإيطالية أن تلك النفايات خطيرة ومهددة لسلامة الإيطاليين، ودعت تلك السلطات الشركة الإيطالية المعنية إلى البحث عن مطارح من خارج التراب الإيطالي والأوروبي للتخلص من تلك النفايات. وقد اختير المغرب كمقبرة لتلك السموم بعد أن قبل القائمون علينا بذلك. والسؤال ما هو المقابل الذي تم قبضه حتى نسهل على الطاليان ما صعب عليهم وندمر أراضينا ونلوث مياهنا ونسمم هواءنا ونهلك ماشيتنا وننخر صحة المغاربة.
وما يفيد أيضا وجود خطر بهذه النفايات هو ما سبق لمحكمة العدل التابعة للاتحاد الأوروبي أن أدانت يوم 2 دجنبر 2014 إيطاليا بسبب فشلها في تنفيذ توجيهات الاتحاد الأوروبي بشأن التخلص من نفس النفايات التي استوردها مؤخرا المغرب من إيطاليا. وقضت نفس المحكمة على إيطاليا بدفع غرامة مالية قدرها 40 مليون يورو، بالإضافة إلى غرامة ثانية وقدرها 42,8 مليون يورو عن كل ستة أشهر تتأخر فيها إيطاليا عن تنفيذ التدابير اللازمة.
وإذا كانت المحكمة الأوروبية والسلطات الإيطالية تعتبر هذه النفايات خطيرة، فما الذي حمل إذن الوزارة المكلفة بالبيئة على أن لا تعتد بتلك الأحكام وفي رعونة غير مسبوقة تقضي بأن النفايات المستوردة ليست على ما وقفت عليه تلك الهيئات القضائية المستقلة من خطورة . بل من المفارقات أن ذهبت الوزارة إلى اعتبار أن تك النفايات تدخل ضمن تلك التي تسمح بها "اتفاقية بال"لعام 1989 بشأن حظر تصدير النفايات الخطرة عبر الحدود، وأيضا بناء على اتفاق شراكة تربطها مع جمعية مصدري الأسمنت.
وفي نظرنا، تبقى هذه التبريرات مجانبة للصواب وغير مقنعة للأسباب التالية:
ـ اتفاقية "بال" التي استندت عليها الوزارة والتي انضم إليها المغرب بتاريخ 25 دجنبر 1995، تنكب على النفايات الخطرة وحدها من دون أي ذكر للمواد غير الخطرة ومن دون أن يجازف واضعو تلك الاتفاقية برفع الحظر بصريح العبارة عن تلك المواد من المتاجرة . وهذا ما كرسته الاتفاقية في قرارها المعروف تحت رقم /// ـ1 الصادر في مؤتمرها الثالث لعام 1994 والذي منع كلية تصدير النفايات الخطرة من الدول المنتمية لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية التي تضم دولا صناعية من بينها إيطاليا إلى باقي دول العالم النامي غير المنتمية لهذه المنظمة ومن بينها المغرب.وإلى حين أن تثبت الوزارة عكس ذلك ، تبقى النفايات الإيطالية مدرجة في قائمة المواد الخطيرة.
ـ إن المغرب أصدر بتاريخ 22 نونبر 2006 الظهير الشريف رقم 153 ـ 0 بتنفيذ القانون رقم 00.28 المتعلق بتدبير النفايات والتخلص منها. وقد نصت المادة 43 من الظهير أنه يمكن استيراد النفايات غير الخطرة بهدف تدويرها أو تثمينها شريطة أن تكون مدرجة في لائحة تحدد بنص تنظيمي. وعلاوة على هذا الشرط، يخضع استيراد النفايات غير الخطيرة إلى ترخيص تحدد كيفية وشروط منحه كذلك بنص تنظيمي، ويجب أن يبين هذا الترخيص على الخصوص الاستعمال النهائي لهذه النفايات، وكذا القدرة والكفاءات اللازمة للتخلص منها بطريقة إيكولوجية.
كما تنص المادة 56 على أنه لا يجوز منح أي ترخيص دون مراعاة حقوق الغير. وفي هذا الصدد، نتساءل هل الوزارة المعنية كلفت نفسها بمراعاة حقوق المغاربة؟ كما يجوز، متى اقتضت المصلحة العامة ذلك، سحب كل رخصة بمقتضى هذا القانون مقابل تعويض منصف بحسب المادة 57 من الظهير.
وبموجب المادة 67 فإنه يجوز للإدارة الاستعانة عند الحاجة بخبرة القطاع الخاص للقيام بالتحاليل والمعاينة لتقييم آثار النفايات على صحة الإنسان والبيئة.
واعتبارا لكل ذلك، هل احترمت الوزارة هذه النصوص وهل صدر النص التنظيمي لهذا الاستيراد، وهل تمت مراعاة حقوق الغير وهل تمت الاستعانة بخبرة القطاع الخاص ، وهل اطلع الرأي العام على طبيعة المواد وعلى نتائج التحاليل المخبرية. هذا الكم من الأسئلة وغيرها كان ينبغي على الوزارة أن تجد لها مكانا في بلاغها الرسمي، بلاغ أقل ما يقال عنه رحى تطحن قرونا.وفي هذا الإطار يمكن الجزم أن الوزارة اشتغلت خارج القانون وبتعسف صارخ غير آبه بالمجتمع المدني وكأن رأيا عاما لا وجود له في قاموس من تتحكم فيهم مصالحهم الضيقة واعتباراتهم التي يريدون إسقاطها على من تراهم قاصرين و لا هم مؤهلين لحقوقهم في المعرفة والتمتع.
ـ أما بخصوص اتفاق الشراكة الذي أبرمته الوزارة مع جمعية مهنيي الأسمنت، كان على هذه الحكومة أن تشرك ذوي الحقوق في صنع القرار البيئي وهو المواطن المعني في كل دائرة يوجد بها مصنع. وهذا ما نصت عليه اتفاقية روطردام لعام 1998 حول العلم المسبق عن المواد والمبيدات الخطيرة التي هي موضع التجارة الدولية والتي انضم إليها المغرب بتاريخ 25 أبريل 2011.
ـ كما أكدت على هذه الشفافية الاتفاقية البيئية الثنائية التي وقعها المغرب في إطار التبادل الحر مع الولايات المتحدة الأمريكية عام 2006 . هذا الاتفاق البيئي ملزم للمغرب في علاقته مع الطرف الأمريكي الذي يعطيه الحق في الاستفسار عن كل ما يمكن أن يؤثر على البيئة أو يلحق بها الضرر. وفي الحالة المعروضة يمكن للجانب الأمريكي أن يساءل وزارة البيئة المغربية عن مدى شرعية استيراد النفايات المذكورة من إيطاليا بموجب المادة 17ـ3 وأن يطالب بإلغاء تلك الصفقة إذا رأى أن من شأن ذلك أن يعرض الاستثمارات أو المحيط البيئي لمخاطر وأضرار. وقد تصل الغرامة المالية بموجب تلك الاتفاقية إلى حدود 15 مليون دولار يدفعها الطرف المخالف وتوضع في صندوق يخصص لجبر الضرر.
4 ـ المغرب على موعد دولي كبير يتمثل في اختياره واستضافته في الأشهر القليلة القادمة مؤتمرا عالميا حول التقلبات المناخية. وهذا الحدث الدولي سينكب بالأساس على قضايا بيئية باتت تؤرق العالم ومستقبل الكرة الأرضية وما حولها.
لكن خلافا لهذا التوجه، لا ندري ما هو المنطق الذي استحوذ على حكومة بلادنا ودفعها إلى التهور وارتكاب حماقة في حق البيئة المغربية للإسهام في نقاوة بيئة الغير. ونحن في مرحلة التحضير لهذا المؤتمر العالمي، ما عسانا نكون قد أعددنا من مشاريع صديقة للبيئة يمكن أن نعرضها كحلول نفاخر بها ضيوفنا إلى هذا المؤتمر. صحيح أن هناك مشاريع أشرف عليها جلالة الملك كالطاقة البديلة شمسية وهوائية أظهرت المغرب كرائد في مجال الطاقة البديلة كطاقة نظيفة غير ملوثة. فالفضل في هذه المشاريع يعود إلى من أوكله الله أمر هذه الأمة وحمايتها، لكن إلى متى سيظل الرهان على رجل لا يشق له غبار ويواصل الليل بالنهار، وهو الرجل الذي كان سباقا في دعوة جلالته إلى وضع ميثاق وطني للبيئة في خطاب مميز وهو خطاب العرش لعام 2009 . وكان من المفترض على ما دونه من مسؤولين أن يسترشدوا بسياسته الحكيمة والواعية والمتبصرة، بدلا من أن يشوشوا ويعبثوا بسمعة المغرب التي نريدها ساطعة في سماء غير ملوثة بنفايات إيطالية أو غير إيطالية.
والواقع أن أقل من هذا الذي يتهدد المغاربة في صحتهم وسلامتهم يمكن أن يفضي في الدول الديمقراطية والتي تخجل من نفسها وتحترم القانون إلى الإطاحة بحكوماتها. ونحن لا نريد لحكومة السيد بنكيران أن يلحقها الضرر في إطار مبدإ التضامن الحكومي لأن هذا المبدأ في الأصل لا يصح ولا يصلح لبلادنا ولن يتحقق. وفي أحسن الأحوال إن تحققت استقالة الوزيرة المعنية بفعلتها المشينة فإن المغاربة يحق لهم عندئذ أن يفخروا بسلامة بيئتهم السياسية قبل أن يفخروا بعافيتهم وسلامتهم والعيش في بيئة طبيعية نظيفة خالية من نفايات الداخل والخارج. فهل من مجيب للدعوات ، أم ينبغي انتظار ليلة القدر لنرفع الأكف إلى السماء... وتلك حكاية أخرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق