البروفيسور قيس مرزوق الورياشي.
علم الأنتروبولوجيا اهتم كثيراً بالأنظمة الغذائية عند الإنسان، لكنه نادراً، حسب علمي، ما اهتم بتأثير الجوع على السلوك البشري.
في أزقة الرباط وساحاتها العمومية لا يمكن أن تخطو خطوتين دون أن يوقفك رجل أو امرأة أو طفل ليطلب منك بعض الدراهم. إلى حدود السنة الماضية، كان غالبية المتسولين من المعطوبين أو العجزة، لكن مع ظهور جائحة كورونا انضمت إلى هؤلاء فئة جديدة من المواطنين: كهول في غاية الصحة الجسدية، تبدو عليهم "علامات الوقار"، يوقفونك في الشارع ويستعطفونك لمساعدتهم على مواجهة متطلبات الحياة.
الفقر ليس مسؤولا بالضرورة عن التسول الذي هو ظاهرة حضرية بامتياز. الفقر يوجد أصلا في البادية (حوالي 80% من فقراء المغرب يعيشون في البادية)، ونقص التغذية، ربما، هو أيضاً يوجد في البادية، وبالرغم من ذلك، فالفلاحون القرويون يتحاشون النزول إلى الأسواق قصد التسول. لماذا؟
الجوع أشكال وأنواع. والتسول لا يرتبط بالضرورة بمسألة الجوع. التسول ظاهرة ثقافية مرتبطة بإكراهات الحياة الحضرية، حيث نمط الاستهلاك يخلق لدى الفرد حاجات جديدة لا يستطيع جل الناس تلبيتها. لذلك، فعندما يوقفك متسول، خصوصاً في الوضعية التي نعيشها في زمن الجائحة، لا تعرف، بالضبط هل يتسول لشراء الغذاء الأساسي له وللأفراد عائلته، أم لتأدية فاتورة الماء والضوء، أم لشحن الهاتف النقال برصيد إضافي.
زمن الجوع المطلق، أي جوع البطن، ربما قد اندثر من زمان، لكن ما يمكن أن نلاحظه هو الجوع الثقافي بالأساس، بمعنى أن الإنسان يخاف من الجوع أكثر مما يعيشه.
للجوع الثقافي مرجعيات متعددة، لكن تبقى مؤسسة "الصدقة" ومؤسسة "الإحسان" من أهم هذه المرجعيات. هناك "جوع" لأن هناك صدقات وإحسان، هذا على الأقل ما يمكن أن نستنتجه من تكاثر المتسولين في شهر رمضان، فتكاثرهم ليس نتيجة للجوع الذي يعانونه (من يعاني من الجوع يشعر به طيلة السنة وليس في رمضان فقط) بقدر ما هو نتيجة معرفتهم بأن الناس يتصدقون أكثر في رمضان، وأن "موائد الرحمن" تنتشر أكثر في رمضان، وأن قفف الجائعين والمحتاجين هي ظاهرة رمضانية بامتياز.
الجوع هو نقيض البذخ، وما دام هناك بذخ، سيكون هناك جوع. الجوع ظاهرة ثقافية مرتبطة بالمجتمعات التي تعيش وضعا طبقيا تكون فيه أقلية تستحوذ على 90% من ثروات البلاد، وأغلبية المواطنين تتدحرج بين طبقة متوسطة توجد تحت رحمة الأغلبية وأخرى فقيرة تقتات على حساب الطبقات المتوسطة.
عندما يجوع الإنسان - والجوع أنواع - تصبح الكرامة شيئاً ثانوياً.
الكرامة هي عزة النفس المرتبطة باستقلالية الشخص في مواجهة الحياة واتخاذ القرار الذي يراه ملائماً، واعتماده على نفسه وعلى كفاءته؛ لكن عندما يكون الإنسان جائعاً (بيولوجياً أو ثقافياً)، يتحول إلى إنسان رخيص يمكن التلاعب به بسهولة من طرف من جوّعوه (بيولوجيا أو ثقافيا)، فيتنازل عن شخصيته ويتحول إلى أداة طيعة في أيادي أسياده.
"خدعوك وقالوا تغير الزمان، وما تغير الزمان، ولكن تغيرت أساليب البغي والعدوان".
في منطقة الريف قبل زمن الرأسمالية، تروى قصص عن عائلات كانت "مستورة" لكن دار بها الزمن ووجدت نفسها لا تملك ما يمكن أن تسد به رمقها (كان يحدث ذلك بعد سنوات من القحط وبعد نفاذ الشعير من المطمورة وبعد نفق ما تملك من ماشية)، وأمام هذه الوضعية، ما كان على رئيس العائلة إلا أن يدعو أفراد عائلته إلى الانتحار الجماعي، فيقوم بجمعهم في غرفة واحدة ويقفل الباب والنوافذ بالطوب إلى أن يستسلموا للقدر. الريفي كان يفضل الانتحار (الموت الفيزيقي) على التنازل عن كرامته والنزول إلى السوق للتسول (الموت الرمزي). حدث ذلك آخر مرة في ثلاثينيات القرن العشرين.
في الريف (وربما مناطق أخرى)، ما تزال الكرامة شيئاً مقدساً. فخلافاً للمدن الكبرى، حيث يمكن للمرء أن يشهر فقره ويستثمره، الإنسان الريفي يخفي فقره ويعيشه بألم في داخله دون أن يشعر به الناس. وفي مدن كالناظور والحسيمة، المتسولون في الغالب الأعم ياتون من مناطق خارج الريف، كما أن الريفي يتعفف عن الهجرة إلى المدينة ليعيش في نوالة (الناظور والحسيمة خاليتان من أحياء القصدير) بل يفضل أن يتساكن مع فقره في محيطه. وبإمكاننا التعرف بسهولة على العائلات الفقيرة في بادية الريف من خلال نمط السكن: دار مبنية بالحجر والتراب تسكنها عائلة فقيرة (لم تهاجر لا محليا ولا دوليا)، ودار مبنية بالياجور والأسمنت المسلح تسكنها عائلة "ميسورة" (غالبيتها من العائلات المهاجرة إلى أروبا).
الجوع تربية وثقافة، كما أن الكرامة تربية وثقافة. ترى أية ثقافة وأية تربية سنراهن عليها مستقبلاً؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق