بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 8 يناير 2021

البعد الجمالي بين الأنا والآخر

مركزتيفاوت الإعلامي
(نُشر هذا المقال في مجلة الإمارات الثقافية)
كثيرةٌ هي الذكريات الأليمة التي تتحوّل مع مرور السنين إلى ذكريات سعيدة، وتسحب صاحبها بحبل الحنين إلى الماضي بلا شروط. فعلى سبيل المثال؛ قد يحدث أن تقضي فترةً في قرية ما، وأنت فقير، أو ضعيف، أو مريض، لا سبيل للسعادة إلى قلبك. ولكن بعد مرور ما يكفي من الزمن، تتغيّر فيه أحوالك نحو الأفضل، وتصبح بعيداً عن تلك القرية وما عانيت فيها، قد يمتطيك الحنين مجدّداً إلى تلك الأيام، وتتمنى لو أمكنك أن تعود إليها كما يمكنك أن تعود إلى تلك القرية. وهذا يعني ببساطة أنّ ماضيك الحامض أو العافص تزبّب أخيراً وصار حلوَ الطعم كالعسل، شأنه شأن الزبيب والتمر والتين المجفّف. ذلك لأنّ من وظيفة الزمان "التطهير". فالمجرم الذي يحكم عليه القاضي بعشرين سنة سجناً، يصبح بريئاً يستحق الإفراج بعد أن يقضي تلك المدة الزمنية داخل السجن.
وقد يصحّ الافتراض بأنّ المسافة الزمنية التي تفصل بين الماضي (المأساوي) والحاضر (نهاية المأساة/العقوبة)، في مثل هذه الحالات، إنما تساوي المسافة الوجدانية الفاصلة بين الشخصيات الممثلة في رواية أو فيلم أو على خشبة المسرح، وبين المُشاهد أو القارئ. أي كما تستمتع بالمآسي التي تشاهدها في فيلم سينمائي أو تلفزيوني، أو تقرؤها في رواية، كذلك يمكن أن تستمتع في حاضرك حتى ببعض المآسي التي عشتها أنت في ماضيك. وهنا يطفو البعد الجمالي على النفس، حيث أنّ كل شيء في هذه الطبيعة له بُعد جمالي، ولذلك فالمآسي نسبية لا يمكن الجزم بأنها مآسٍ مطلقة. عادةً يعتقد الإنسان بأنه لا يستطيع أن يضحك وهو ينظر إلى قوم يذبحون إنساناً. ولكن في الواقع ثمة زاوية جمالية aesthetic لو نظر منها إلى هذا المشهد، لربما أضحكه، أو على الأقل، قد لا يحرّك فيه مشاعر الاستنكار.
فلعل كلّ ما يجعلنا نشعر بالحزن والرعب والقرف، هو أننا ننظر إلى المشهد المأساوي نظرةً ذاتية. فكلما نظرنا إليه نظرة موضوعية (أي كلما فصلناه وجدانياً عن ذواتنا)، اقتربنا من بعده الجمالي، ولهذا كثيراً ما ترى الإنسان يبكي بغزارة، ثم فجأةً يختم بكاءه بالضحك. وكثيراً ما تراه يضحك من سوء حظه دون أن يبكي طبقاً للمأثور القائل "من الهمّ ما يضحك"، لأنّ الإنسان، في هذه الحالة، إنما يفقد القدرة على الإحساس الذاتي، فيحسّ بأنّ ما يجري له إنما يجري لشخص آخر، ولعلّ هذا يحدث-بشكل أكثر جلاءً- كلما كانت المصيبة أو الضربة أو الورطة أكبر مما يحتمل الإنسان. ففي حادثة سير مثلاً يشعر الضحية بأنه "شخص آخر"، ولا يشعر بتاتاً بالألم حتى قبل أن يقع في غيبوبة. ولاحظ أنّ إحساس الضحية بأنه "شخصٌ آخر" يستدعي إلى أذهاننا ثنائية "الضحية" في فيلم مأساوي"، و"المُشاهد" الذي يستمتع بتلك الأحداث المأساوية.
فلو أخذنا بعين الاعتبار-إضافةً إلى ما تقدّم ذكره- هدوءَ الكون إزاء ما يحدث في هذا العالم من الكوارث والمآسي والظلم والطغيان، وكيف أنّ الإنسان الذي يشعر ويفكر ويتخيّل سرعان ما يلفظ أنفاسه الأخيرة فيطويه النسيان وكأنّ شيئاً لم يكن..لو أخذنا هذه الأمور وغيرها بعين الاعتبار، فقد يبدو لنا أنّ أساس الكون جماليaesthetic، فكأنّ كلّ شخص، وكل شيء فيه "أنا" و"آخر" في نفس الوقت. كأنّ الألم ليس إلا حاجزاً مؤقّتاً ينظّم أحداث وشخوص المسرحية. وأنّ "الأنا" تختفي من على المسرح بالتزامن مع اختفاء "الألم" والإيذان باعتمار "الآخر" الذي قد يستمتع بهذا الألم !. وهذا ما يظهر جلياً في كل الأعمال الفنية، ففي الرواية الأدبية أو الفيلم-كما أشرنا سالفاً- لا أحد ينكر بأنه يستمتع بمآسي "الآخرين" ومصائبهم، بل إنّ من أهم ما يجعلنا نميّز بين قصص الأطفال وقصص الكبار هو أن قصص الأطفال تنتهي نهاية سعيدة، بينما تنتهي قصص الكبار عادةً نهاية مأساوية.
إذن، كلما تألّم الآخرون في الرواية أو الفيلم، نشعر نحن بالمتعة، لماذا؟. لأنّ القناع الأخلاقي يسقط عنا في تلك الحالة، ونظهر على حقيقتنا بما ينسجم تماماً مع الطبيعة. فبسبب القناع الأخلاقي، نشعر بالحزن والرعب والقرف عندما نشاهد إنساناً يُذبح في الواقع، لأننا نحسّ بأن "الآخرين" لن يقبلوا استمتاعنا بتلك الجريمة الجادّة. أما حين نقرأ رواية أو نشاهد فيلماً، فإنما نظهر على حقيقتنا الطبيعية، ونشعر نحو الشخوص الخياليين تماماً كما نشعر نحو أنفسنا في الأحلام، أو أثناء تعرّضنا لحوادث دموية، أو مصائب لا نحتملها.
إنّ ما يجعل المرءَ في الواقع يعطف ويبكي من أجل الآخر الذي يعاني ويتألّم، هو نفس الأمر الذي قد يجعله يبتعد عن نفسه في حالة ما لو تعرّض لحادث دموي على سبيل المثال. فكما وضع نفسه مكان الضحية سابقاً، كذلك قد يضع نفس الضحية (الآخر) مكانه لاحقاً إذا اقتضى أمر مأساوي لا قبل له بتحمّله. مازلت أذكر شخصاً سقط عن دراجته الهوائية قريباً من منزلنا في البلدة سنة 1994، فهرعنا إليه أملاً في إسعافه، فوجدناه فاقدا الوعي، لكنه سرعان ما صحا من غيبوبته وقال لأخي: "من أنا؟..وماذا حدث؟". بل أصرّ على معرفة هويته فقال: "أنا "فلان" أليس كذلك؟" أجابه أخي محاولاً طمأنته: "نعم، أنت "فلان" والحمد لله على سلامتك". وخلاصة هذه الورقة، أنّ البعد الجمالي للطبيعة يعني أننا جميعاً متفرّجون، مستمتعون بما يحدث لنا وللآخرين، وكلنا آخرون.
سعيد بودبوز

ليست هناك تعليقات: