بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 30 يناير 2021

الجزء الثاني: " تين أيت وامان "

مركزتيفاوت الإعلامي
عبد الواحد درويش
الجزء الثاني: " تين أيت وامان "

الحلقة العاشرة: " لله خودوني "

لو كان الوفاء رجلا لكان إسمه سيدي موح نايت علي، العامل المهاجر بأوروبا الذي كان في زيارة لأهله ببلدة تنغير عند وقوع حوادث "تين أيت وامان"، أوائل فبراير 1975. 

يتمتع سيدي موح بكل صفات النبل والشهامة، ولأجل ذلك، كان يحضى لدى الأهالي بتقدير خاص. ولحسن الحظ، لم يتعرض سيدي موح للإعتقال كما وقع لأصدقاءه العمال بالخارج العشرة الذين ألقي عليهم القبض وكان أغلبهم أبرياء من التهم الملفقة لهم بسبب ما، بالنسبة لبعضهم، أو بدون أي سبب يذكر، بالنسبة لأغلبهم. 

وعلى مدى السنة الكاملة التي قضاها أصدقاءه بالسجن المحلي بالصويرة، ظل سيدي موح يواضب على زيارة سائر المعتقلين ويقوم بما يستوجبه الأمر من خدمات جليلة للتخفيف عن معاناتهم. وكان في كل مرة، وهو سائر لزيارة المعتقلين بالصويرة، يتوقف بمقر عمالة ورزازات ويصر على مقابلة عامل الإقليم لاستيضاح بعض الأمور المتعلقة بالوضعية المهنية للعمال المهاجرين العشرة المتواجدين رهن الإعتقال، كما ينتهز الفرصة لتسوية ما أمكن له تسويته من وثائق إدارية تخص رفاقه وعائلاتهم.

وقد لاحظ سيدي موح نايت علي، عقب إحدى تلك الزيارات،  أن أغلبية المعتقلين قد بدأت تظهر عليهم أعراض صحية مقلقة، خاصة على الجانب النفسي والعقلي. وقد سمع من أحد الأعيان، ذات زيارة، أن الحالة الصحية لستي لمكي نايت لحارت باتت مقلقة للغاية بسبب تداعيات التعذيب الذي تعرض له بعيد إعتقاله وأثناء استنطاقه من قبل الضابطة القضائية للدرك الملكي. 

في أواخر شهر فبراير 1976، وكانت قد مرت سنة كاملة على اعتقالهم، إستقيظ المعتقلون، قبيل الفجر بقليل، على صوت صياح قوي ممزوج بنواح هستيري أدخل الفزع والرعب في نفوسهم. وقد تأكد أن هذا الصياح الفضيع كان يأتي تباعا من الزنزانة التي كان يتواجد فيها شاب غريب الأطوار كان يقضي وقته في قراءة رزنامة من الكتب ظلت والدته تحملها له عقب كل زيارة. 

سمع صوت الحراس يهرعون للزنزانة التي تأتي منها تلك الأصوات المرعبة، وتأكد أن الشاب، وكان أصله من تارودانت،  قد تعرض مجددا لتلك النوبات التي ظلت تنتابه كلما تذكر صديق طفولته بوجميع أحكور الذي جمعته به صداقة قوية في الحي المحمدي بالدار البيضاء، والذي "توفي" فجأة عقب سهرة فنية أحياها رفقة مجموعته الغنائية الصاعدة "ناس الغيوان"، ليلة 26 أكتوبر 1974 بمدينة القصر الكبير. 

منذ تلك الفاجعة، ظل الشاب الذي اعتقل بتهمة استهلاك مخدر "لاهاش" حين كان برفقة بعض السياح الأجانب لزيارة مدينة الصويرة، يردد أغنية "لله خودوني" التي خلدت في ذاكرته روح صديقه بوجميع. 

نقل الشاب إلى مصحة السجن وقضى بها بضعة أيام. وبعدما أعيد لزنزانته، استأنف عادته في قراءة الكتب ورسم فراشات على أوراق سمحت إدارة السجن بتسليمها إياه مع بعض أقلام الرصاص، كما عاد ليحكي لزملائه قصة ذاك السجين الفرنسي الذي صدر في حقه حكم بالمؤبد في التلاتينيات، وكان إسمه هنري شاريير، والذي رست السفينة التي كانت تقله إلى جانب معتقلين أخرين قادمة من فرنسا بميناء الصويرة قبل أن تستأنف طريقها في اتجاه معتقل رهيب يوجد بجزيرة "غويان الفرنسية". وفي أحايين عديدة، وبعدما يكون قد لف له سيجارة معتقة ب "لاهاش" كانت تحرص والدته على اقتناءها قبل إخفائها بعناية داخل إحدى تلك الكتب التي تسلمها لحراس السجن مقابل "هدية" بسيطة خلال كل زيارة، ينطلق في سرد قصص عجيبة تسرح معها مخيلة زملائه في الزنزانة، وكانت أحب قصة لديه هي تلك التي تخص مدينة الصويرة نفسها التي أراد لها السلطان محمد بنعبد الله أن تكون عاصمة دبلوماسية سنة 1760 قبل أن يحولها السلطان الشاب المولى عبد العزيز إلى منفى لمعاقبة الماردين بعدما بنى بها سجنا رهيبا على إحدى الجزر المقابلة للمدينة يحيط به سور عال لا يمكن الدخول إليه أو الخروج منه إلا عبر خمسة أبواب يحرسها حراس كان الصدر الأعظم باحماد من يختارهم بنفسه من ضمن أشرس الجنود. 

بعدما يتنهي الشاب من رواية قصصه الغريبة ومن تدخين ما تبقى لديه من سجائر معتقة، يختم ذلك بما يسميه "الجدبة الغيوانية" فيبدأ بترديد أغاني صديقه بوجميع أحكور ويصر خاصة على ترديد هذا المقطع من أغنيته المفضلة "لله خودوني" :
 
"سيل سيل يا الدم المغدور
تراب الأرض محال ينســـــاك
وحوش الغابة ترهبات منـــك
السم ف الصحاري جافل منك
دم المغدور ما نْسْلّمْ فيــــــــه
حق المظلوم أنا مـــا نــــدوزو
يا طاعني من خلفي . . . موت وحدة هي
غير خودوني . . . لله خودونــــــي".

في غضون ذلك، كان الأعيان المعتقلين القادمين من تنغير قد بدؤوا يحسون حد الإكتئاب بغربة شديدة في هذا العالم الذي لا يشبه في أي شيء عالمهم هناك في واحة تودغا. وكان ذلك سببا رئيسيا جعل بعض الأعيان يقتربون من بعضهم البعض ويتناسون تدريجيا الصراعات التي أدت إلى وقوع تلك الأحداث المؤسفة.

قال عدي نايت لحسن، موجها كلامه لصديقه حمو نايت ناصر : " أهيا حمو، هات ويض ومان أيا..! " تم إلتحف سلهامه من حوله وخلذ لنوم عميق..

(يتبع..)

(* تنويه لابد منه:
هذه شذرات قصصية مستوحاة من أحداث تاريخية لا تعكس بالضرورة ما قد يكون وقع في مرحلة ما بتلك البلدة.)
Zone contenant les pièces jointes

ليست هناك تعليقات: