بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 15 ديسمبر 2020

حين كان اليهود يَحيَوْن ويعيشون بقرية تالوين ونواحيها











مركزتيفاوت الإعلامي


نعود بهذا المقال البسيط وعلى أجنحة السرد الشفاهي للأحداث وبمناسبة المستجدات السياسية على الساحة إلى حقبة من التاريخ وفترة من العيش عفى عنها الزمان وطواها النسيان وأصبحت في خبر كان، فترة إقامة وعيش اليهود بقرية تالوين ونواحيها، فترة أسمعَنا عنها السابقون،نحن اللاحقين،الشيئ الكثير، يذكرونها بألسنتهم لتستوطن عقولنا دون أن نشاهد منها أو نلمس فيها شيئا مذكورا،
إن الفترة التي كان اليهود خلالها مقيمين في مناطق تالوين ونواحيها،فيها يحيون وفيها يموتون،ويمثلون جزءا غير يسير من ساكنتها،لم تكن فترة عابرة أو سحابة صيف مرت في سماء تالوين وعن قليل تقشع، هي فترة بالغة الأهمية لما لها من أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية،لم تكن الطائفة اليهودية في تالوين أقلية تعيش على الهامش،بل كانوا أولي قوة وأولي شأن،كانوا ذوي جاه وأهمية،خاصة في مجال الإقتصاد والصناعة التقليدية،كانوا،حسب ما يتدوله الناس عنهم،ملح الحياة التجارية في أسواق تالوين، بالفعل كانت منطقة إغيل نوغو مركز الثقل لمستقر الطائفة اليهودية في تالوين وما تزال مقابرهم ثمة تشهد على مرورهم ومقامهم الكبير بالمكان،غير أن دواوير أخرى كانت قد شهدت لهم وجودا واستقرارا،لعل أهمها كان دواري إمي نوكني بأساكي وتازولت بقبيلة إماديدن،يقيم بها بعضهم ولو بأقل مما كان عليه الحال في نظيرها بزاكموزن،جدير بالذكر كون أول وأكبر من كان يجلب مادة السكر إلى تالوين في قديم الزمان من مدينة مراكش بالوسيلة المعهودة والمعروفة حينذاك (البون)،كان تاجرا يهوديا بالإشتراك مع أحد تجار تالوين من ساكنة إمي نوكني يدعى (ح ع ر)،وسمعنا بهذا الصدد نفسه عن دهاء وحيل وفطنة وذكاء هذا التاجر اليهودي مع قوات الإستعمار الفرنسية وجماركه ومراقبيه،مواقف طريفة لو أردت سردها فسيجنح بي المقال خارج الموضوع.
لم يكن نشاط اليهود في تالوين يقتصر على النشاط التجاري فحسب،بل كانوا مضرب المثل بين الناس،وبين الحرفيين بالخصوص،في إبداع وإتقان ما كانوا يصنعونه،حرفيون بالمعنى الكامل والصادق للكلمة،خاصة في ميادين الصياغة والخرازة والخياطة.
ولأن الشيئ بالشيئ يذكر،فإنني أذكر يوم زرت المتحف الأثري في مدينة مكناس ووجدت معروضا فيه على جدار من جدرانه صينية نحاسية قديمة مصوغة بشكل بديع عليها رسومات وتزيينات تؤطرها نجمة داوود التي تميز أعلام اليهود ونقشت عليها حروف عبرية،بجانبها ورقة مكتوبة تشكل مفتاح المعروض،كتب عليها (منتوج منطقة تالوين –تارودانت بالجنوب المغربي).
في قبيلة سكتانة،ما تزال ساحة وسط دوارنا تحمل إلى اليوم إسم (الملاح)،وقد أطلقت عليها لكونها فيما مضى كانت تشكل مستقر اليهودي الصائغ(أصياغ)،واليهودي الإسكافي(أخراز)،واليهودي الخياط وغيرهم من اليهود المحترفين،يستقرون بها أياما أو ساعات لمزاولة عمليات البيع والإصلاح قبل أن يرحلوا عنها إلى مواضع أخرى،ينتقلون بين الدواوير لكسب لقمة العيش،منهم من يصوغ الحلي والمجوهرات،ومنهم الإسكافي الذي يصلح الأحذية،ومنهم الذي يصنع البردعة أو يقوم بترقيعها.
عند نهاية الخمسينات وبداية الستينات من القرن الماضي،ستعرف منطقة تالوين كبقية المناطق المغربية والعالمية حملات تهجير قسرية وطوعية للطائفة اليهودية في اتجاه ما يطلقون عليه بلاد الأجداد وأرض الميعاد،وما يزال المعاصرون لتلك الحملات من ساكنة تالوين يتحدثون عن الأجواء المرافقة لها، ويحكون عن ظروف تلك الهجرة القسرية التي عاشها يهود تالوين،يستعدون للرحيل وهم حيارى بين مطرقة المغادرة وسندان الحنين إلى العيش والمقام بين المسلمين الأمازيغ،باعوا ديارهم ومساكنهم وحقولهم وأملاكهم بثمن بخس،كانت في انتظارهم قوافل الحافلات عند مدخل قرية تالوين من الجهة الشرقية،إنتظروهم ليصلوا من كل مكان ويأتوا من كل فج عميق،ثم غادروا في أجواء من البكاء والعويل والحزن.وأنا أسمع عن هذا الموقف وهذه اللحظات التي تحكى على مسامعنا يرجع بي الشعور إلى استعراض قصة فرعون مع قومه وهم جند مغرقون، حين تبعوا سيدنا موسى في طريق البحر،يقصدون نفس الوجهة ونفس المكان الذي يقصده يهود تالوين،وليست المقارنة هنا مقارنة زمان بزمان ولا مكان بمكان ولا غاية بغاية،إنما من حيث الآلية عند قوله تعالى في شأن فرعون وقومه وقد غادروا مصر مغادرة قسرية بسبب سوء تصرفهم وتهورهم:(كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين،كذلك وأورثناها قوما آخرين).
غادر كل اليهود منطقة تالوين ولم نجد بها نحن جيل السبعينات والثمانينات سوى يهوديين إثنين،أحدهما يدعى (بيريز)،وكان يتاجر بسوق الإثنين في المتلاشيات-لافيراي- يقال إن إبنا له جاء له وحمله معه إلى حيث لا تعلم وجهته،والثاني يدعى (الداودي) يسكن في دوار تابيا القديمة وهو ساعاتي،يقوم بإصلاح الساعات اليدوية والمنزلية،وكأني بالأقدار تبقي في تالوين على يهوديين اثنين،تاجر وحرفي، ليتبين للناس شيئا مما كان اليهود طوال مقامهم بين ظهرانيهم يمارسونه من أعمال وأشغال في حياتهم اليومية.

عزيز الزاهي

ليست هناك تعليقات: