
توفي محمد المختار السوسي يوم 17 نونبر 1963. وتوفي محمد خيرالدين يوم 18 نونبر 1995. هكذا تكون الصدف العجيبة، فخلال هذين اليومين من كل سنة، تحل ذكرى وفاة ورحيل مفكران وعالمان مرموقان من خيرة ما جادت به أرض سوس، رحيلهم حفر حزنا عميقا في انفاس عدد كبير من الناس ونخبة من الشعراء والادباء والعلماء والمفركرين، ليس بالمغرب وحده وإنما بالعالم أسره. مهما كتبنا وكتب الاخرون عن هاذين المفكرين فلن يوفوا حقهما. اننا نتحدث عن اشخاص دخلوا التاريخ من باب المعرفة والكتابة والعلم والادب....
توجد ملامح الاختلاف والتكامل والتناقض بين المختار وخيرالدين، إلا أنهما يمثلان حلقة متسلسلة في تاريخ النبوغ الأمازيغي خلال القرن العشرين. المختار السوسيي ولد في دوار إليغ ناحية ايت وافقا وازداد خيرالدين في دوار أزرو واضو بأملن، وهما تجمعهما منطقة واحدة، وهي جزولة، مجالا، ونحلة، وتحالفا، وهما أبناء بادية سوس الخلص.
المختار كتب باللغة العربية وخير الدين كتب باللغة الفرنسية، يختلفان من حيث اللغة وإنما هم متكاملان ومنسجمان الى حد بعيد من خلال التوافق مع السياق، فالمختار ابن زمانه ويمثل السياق الثقافي والاجتماعي الذي نشأ فيه، حيث ولد سنة 1900، آنذاك يوجد نمط تعليمي واحد وهو التعليم الديني العتيق الذي يدرس جميع المواد باللغة العربية، وهو السائد الذي في المغرب آنذاك، بادية وحاضرة. في حين ولد خيرالدين في سنة 1941 أي زمن الحماية والمدارس العصرية الفرنسية.
وبالرغم من أنهما أمازيغيي اللسان، إلا أن المختار كتب بلغة عربية فصيحة جدا، اخرس بها أفواه العرب والمستعربة، كتابة ونحوا وبلاغة، فيما محمد خيرالدين كتب بلغة فرنسية أنيقة وغاية في الدقة والبلاغة والاسلوب إلى درجة أنه تجاوز بلاغة الفرنسيين واندهشوا أمام نصوصه وأشعاره البليغة واحرجت كبيرهم سارتر الذي انحنى الامازيغي خيرالدين واعترف باسلوبه الفرنسي الجميل والفريد.
المختار السوسي عرف بكونه مؤرخا متمكنا وعالم التاريخ، ولكنه أيضا شاعر مرموق وأديب كبير، ونفس الشيء خيرالدين عرف بكونه شاعرا وأدبيا عالميا لا يضاهيه أحدا في الشعر والنثر....وكلاهما تميزا بغزارة الكتابة والتدوين، المختار السوسي له أزيد من 50 كتابا تتوزع على مجالات مختلفة تاريخ شعر ادب ورحلة وسيرة ومناقب اشهرها المعسول وخلال جزولة، الالغيات، اليغ قديما وحديثا، من افواه الرجال، معتقل الصحراء....اما خيرالدين فخلف حوالي 20 كتابا تتوزع على الرواية والشعر ويوميات...منها الملك سنة 1966، أݣادير 67، الجسد السالب 68، أنا الحاد الطباع 70، النباش 73، هذا المغرب76، أكونشيش 84،......وكلها بالفرنسية، وله عشرات المقالات منشورة في مجالات ودوريات أوربية ومغربية....
وإن كان المختار السوسي يكتب من داخل نسق الثقافة العربية الإسلامية إلا أن جميع كتبه ومؤلفاته تتحدث كلها عن سوس وتاريخه وثقافته بمفهومها الشامل من عادات وتقاليد وتراث وطقوس وحياة يومية ومجال جغرافي ومسارات الناس وحياتهم، وبذلك فإنه قام بثورة كبيرة في ميدان التدوين والتأريخ، واخذ على عاتقه جمع وتدوين تاريخ بوادي سوس في الوقت الذي كان يكتب فيه تاريخ السلاطين وتاريخ العواصم كفاس وتاريخ الاسر والعائلات الفاسية ومدارس فاس وجوامعها...وإن كان يكتب هو بالعربية فقد أوصى في احد كتبه أبناء سوس بالانكباب على تعلم اللغات الأجنبية وكتابة تاريخ سوس بها لأنها حسب ما قال هي التي ستسيطر على العلم والمعرفة في مستقبل العالم. أما خيرالدين وإن كتب هو الآخر عن مواضيع مختلفة فإنه لم ينس موطنه سوس في عدة أعمال روائية وأدبية، من خلال روايته البديعة الجميلة أݣادير التي تحدث فيها عن آلام الزلزال الذي ضرب اكادير، ولكن اجمل ما أبدعه خيرالدين عن سوس هو رواية أسطورة وحياة أݣونشيش ومقدمتها الطويلة التي عنونها بالعودة إلى الجنوب، وفي هذه الرواية اعطى خيرالدين كلما في جعبته الأدبية من خيال طافح وابداع راقي ووصف غاية في الدقة والجمال، وسافر بنفس عميق داخل حضارة وتاريخ سوس في سرد أدبي ممتع جدا...
مات محمد المختار السوسي يوم 17 نونبر 1963 وصدر لخيرالدين أول عمل شعري له في لندن سنة 1964 تحت عنوان "غثيان أسود" يضم قصائد تشي بيأس وجودي متأصل...إن المختار السوسي كعالم ومفكر ومؤرخ عظيم عاش وتعايش مع سياقه الثقافي والسياسي كان فيه المغرب تحت الحماية الفرنسية وظل المختار مناظلا ومدرسا وعالما يشتغل مع السلطان ومات وهو وزيرا للاحباس وقاضيا شرعيا داخل القصر، في حين غرد الطائر الأزرق خيرالدين بعيدا وعاش حياته متمردا وثائرا يكتب عن اليأس والرفض ويعاند كل أشكال السلطة في جميع اشكالها الثقافية والسياسية، وشن ثورة بالكتابة والاداب والابداع....
اعتقل المختار السوسي مرتين ونفي مرتين من قبل الاستعمار الفرنسي، الأولى من مراكش إلى مسقط رأسه بإلغ، والثانية من البيضاء إلى الصحراء اغبالو نكردوس، فيما هرب خيرالدين من المغرب واختار المنفى في فرنسا لمدة 12 سنة، خوفا من النظام....
محمد المختار نفي من أجل الحرية و الاستقلال في زمن الاستعمار وخيرالدين نفي من أجل الحرية والديمقراطية في زمن الاستقلال....
محمد المختار السوسي مات نتيجة حادثة سير بالرباط، وخيرالدين توفي بالسرطان بسب عملية جراحية في عيادة لطب الاسنان...
هكذا....هي سيرة عالمان أمازيغيان من سوس....اختلفا في السبل والاسلوب والتقيا معا على سكة التمهيد لنهضة أمازيغية مظفرة....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق