بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 26 أبريل 2016

انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية وإشكالية النزاهة

انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية وإشكالية النزاهةمرك

زتيفاوت الإعلامي
عبداللطيف وهبي

ربما كنت محظوظا حينما قبل أحد فقهاء القانون الدستوري الأوروبي دعوتي له على العشاء، كنت طيلة لقائي معه أشتكي من المحكمة الدستورية المغربية، تارة أنتقدها وتارة أخرى أعرض عليه أحكامها ووجهة نظري في هذه الأحكام، وبعد لحظة اكتشفت أنني تجاوزت قدري أمام فقيه قانوني يعتبر من جهابذة القانون الدستوري، أجابني وهو يبتسم، كل ما قلته متفق معك حوله، ولو حدث أن كنت قاضيا في المحكمة الدستورية فستفعل كما يفعلون وسأكون حينذاك متفق معك مرة أخرى، فالمحامي هو القاضي الدستوري الأول الذي يحرك الملفات ويثير المنازعات، لكن القاضي الدستوري هو حامي المعبد، يفكر في الجميع وينفصل عن الجميع ليضمن أمن وسلامة المعبد، فيختلف معك لأنك صاحب قضية ومصلحة، بينما هو صاحب دستور وقانون ودولة.

لا أريد أن أقول أنه أحبطني بجوابه، ولكنه أثار اهتمامي إلى أنه أفضل طريقة لتقييم موضوع قانوني ودستوري هو خلق مسافة مع الذات ومع ما تحمله من أفكار وقناعات خاصة عند مهمة قاض دستوري.

فالمحاكم الدستورية أصبحت ضرورة العصر، تضمن حسن إعمال الدستور وانسجام القانون، وهو ما جعلنا نتجرأ إما جهلا أو حماسا في التوجه إليها في عدة قضايا، وذلك لرغبتنا الملحة في محاولة الوصول من خلالها إلى روح الدستور، لكي نمارس السياسة بشكلها الدستوري، ونمارس التشريع بشكله الجيد، وقد ننازع في بعض توجهاتها وندلي برأي مخالف عنها، لكن لا يجوز لنا التعليق على أحكامها، فالمحكمة الدستورية توجد في قمة هرم الجهاز القضائي، وأحكامها ملزمة لجميع المواطنين ومؤسسات الدولة بما فيها الجهاز القضائي.

فدور المحكمة الدستورية اليوم أصبح ذو حساسية دستورية مفرطة، يفرض علينا التعامل معها بكثير من الحيطة والجدية، ولأننا في البرلمان مقبلين ولأول مرة في تاريخ وطننا على انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية، فإما أن تكون الانطلاقة جيدة ومنسجمة مع الأهداف من خلق هذه المؤسسة، و إما أننا سنخلف الموعد مع لحظة تاريخية تجعل مشروعنا الديمقراطي في مهب الريح.

فالمحكمة الدستورية إحدى أعمدة العملية الديمقراطية، لذلك حاول المشرع الدستوري إشراك الجميع في تعيين أعضائها، هذا المشرع الذي منح للبرلمان تعيين ستة أعضاء ولجلالة الملك تعيين نفس العدد، وهذا لا يعني أن المشرع الدستوري سوى بين المؤسستين الدستوريتين (جلالة الملك والبرلمان)، فجلالة الملك يتميز بكونه وفقا لمقتضيات الفصل 107 من الدستور الضامن لاستقلال السلطة القضائية، والمحكمة الدستورية في قمة الهرم القضائي، والملك كذلك وفقا للفصل 42 من الدستور هو الساهر على احترام الدستور وحسن سير المؤسسات الدستورية وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وهذه الاختصاصات الدستورية حتما ستكون لها انعكاسات ونتائج قانونية على انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية.

وعلى سبيل المقارنة فيما يخص الصلاحيات الممنوحة لجلالة الملك في تعيين أعضاء المحكمة الدستورية نجد أن الرئيس الفرنسي مثلا يعين ثلاثة أعضاء في المجلس الدستوري الفرنسي من أصل ستة، وفي النمسا يعين رئيس الجمهورية خمسة أعضاء من أصل 15، بينما في إسبانيا فيعين الملك 12 عضوا باقتراح من مؤسسات دستورية أخرى، وفي بلجيكا يعين الملك 12 عضوا من لائحة يضعها مجلس الشيوخ تتضمن14 اسما، وفي بلغاريا يعين رئيس الجمهورية أربعة أعضاء من أصل 12 عضوا، وفي سلوفاكيا فيختار رئيس الجمهورية 10 أعضاء من أصل 20 عضوا يقترحهم البرلمان.

كما يعين رئيس الدولة الروماني ثلاثة أعضاء من أصل 9، وفي مصر يعين رئيس الجمهورية جميع الأعضاء الإحدى عشر بعد استشارة المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وغيرها من الأمثلة مما يتأكد معه أن جل الدول تمنح لرئيس الدولة دورا فاصلا في اختيار أعضاء المحاكم الدستورية وكذلك للمجالس التشريعية.

وبالرغم من أن قضاة المحكمة الدستورية لا يمارسون سلطة سياسية، فتبقى المحكمة الدستورية قضاء ذو طابع سياسي لكنه يقوم بمهام قضائية، مما يجعل دور القضاة ذو حساسية مطلقة، لذلك فاختيارهم تم تكبيله بشروط كنا نتمنى أن تكون دقيقة استبعادا لكل تحايل أو تغيير لفائدة هذا الطرف أو ذاك، غير أنها جاءت عامة واشترطت التوفر على تكوين عال في مجال القانون وعلى كفاءة قضائية أو إدارية، وأن يكونوا قد مارسوا مهنهم لمدة تفوق 15 سنة ومشهود لهم بالنزاهة والتجرد.

وإذا كان الأمر كذلك فيمكن اختزال هذه الشروط في ثلاثة شروط لا محيد عنها وهي: أولا: شهادة قانونية عليا، ثانيا: كفاءة قضائية أو إدارية لمدة 15 سنة، ثالثا: النزاهة والتجرد.

إن جل دساتير العالم تتفق حول اشتراط التكوين القانوني، وإذا كانت فرنسا من الدول القلائل التي ليست بها شروط محددة، فإن ألمانيا تشترط في عضو المحكمة الدستورية إما أن يكون قاضيا في المحكمة الاتحادية العليا أو مستوف لشروط الوظيفة أي أن يحمل شهادة قانونية ومدة محددة من العمل الإداري، أما في النمسا فتشترط أن يكون قاضيا أو موظفا أو أستاذا جامعيا قانونيا أو عالم سياسة، وفي إيطاليا فيشترط أن يكون قاضيا أو أستاذا جامعيا في الحقوق أو محام، أما إسبانيا فإنها اشترطت أن يكون أستاذا جامعيا أو محام أو موظف عام، وفي البرتغال فإما أن يكون قاضيا أو حقوقيا.

أما البلجيكيون فقد اتجهوا إلى اشتراط أن يكون قاض عدلي أو إداري أو مالي، وفي هنغاريا اشترط الدستور أن يكون قاضيا أو ذا خبرة مهنية وحقوقية، وفي مصر اشترطت أن يكون قاضيا أو أستاذا جامعيا أو محاميا، أما في لبنان فقد اشترط الدستور أن يكون العضو قاضيا أو أستاذا جامعيا في الحقوق أو العلوم السياسية أو محام، أما الجزائر فلا تشترط أية شروط، بينما الدستور التونسي لما قبل الثورة فيشترط شخصيات قانونية.

إن هذه الشروط تجتمع وتحدد الطبيعة القانونية لاختصاص الشخص المرشح ليكون عضوا بالمحكمة الدستورية، لكونه يجب أن يتملك المساطر والمبادئ العامة للقانون والقدرة على تحليل النصوص باستحضار النسق العام للتشريع.

أما في المغرب ولسوء حظنا نجد أن النقاش تحول نحو مفهوم الشهادة العليا بين الدكتوراه والإجازة، فحينما تمسكنا بضرورة التوفر على شهادة الدكتوراه فلكونها شهادة عليا، وثانيا لكونها تعطي صورة على قدرة المرشح في البحث والدراسة والتمحيص، بينما يضغط البعض في اتجاه الإجازة وبتبرير هزيل جدا يختزل في كون هناك الشرط الثاني الذي يتحدث على الممارسة لمدة تفوق 15 سنة، في حين أن شرط المدة منفصل تماما على شرط الشهادة، وهذا الأخير مستقل عن ما قبله، وبالتالي كيف يمكن أن توفر هذه الشهادة خبرة فقهية وإدارية؟.

إن العمل الفقهي يكون ضمن عمل البحث والدراسة التي توفرها شهادة الدكتوراه وأن مؤسسة بهذا الحجم وبهذا الدور تفرض علينا أن نمكنها بأرقى مستويات التفكير العلمي والقانوني الموجود ببلادنا، مع توفر شرط النزاهة والتجرد، غير أنه ما يلاحظ ويثير التقزز فعلا هو اتجاه البعض نحو اختزال الشروط لخدمة مرشح معين إما لحل مشكل سياسي داخل الحزب، أو للتخلص من ذلك الشخص، أو لإرضاء صديق، أو زبون حزبي، وهذا لا يليق برجالات الدولة ولا بأي مسؤول في أي مؤسسة دستورية ولا بأي حزب سياسي، فحساسية مهام هذه المحكمة التي تضبط العلاقة الدستورية بين المؤسسات وتسهر على احترام القوانين للدستور وإعمال القرارات التحكمية لجلالة الملك بين السلطات ومحاولة ملامسة القوانين لروح الدستور، تجعل هذه المؤسسة تساهم في ضبط العلاقات بين المؤسسات الدستورية واشتغالها، لذلك لا يمكن أن تكون مجالا للتخلص من بعض المشاكل السياسية الناتجة عن الصراعات الشخصية أو في إرضاء هذا الطرف أو ذاك من خلال التعيين في المحكمة الدستورية، فالوسيلة المثلى للحصول على العضوية في المحكمة الدستورية لا يمكن أن تتم إلا بالتشدد في الشروط والرفع من درجتها احتراما لهذه المؤسسة.

وإذا كان جلالة الملك كما قلنا سابقا هو المسؤول على حسن سير المؤسسات الدستورية وكذلك صيانة الاختيار الديمقراطي، وبما أن هذه المؤسسة من المؤسسات الدستورية وإحدى أعمدة التوجه الديمقراطي، فإن لجلالة الملك الذي له سلطة التعيين، أن يرفض تعيين أي شخص مقترح لا تتوفر فيه النزاهة والتجرد بحكم ما يملكه جلالته كرئيس للدولة من وسائل دستورية ومؤسساتية تمنح له وسائل النظر حول أي شخص مطعون في نزاهته أو في قدراته القضائية أو الإدارية في أن يعتلي منصب داخل هذه المؤسسة التي تتموقع في أعلى هرم السلطة القضائية.

لذلك نعتقد أنه على الجميع سواء في المؤسسات الدستورية أو الأحزاب السياسية أو الفرق البرلمانية، مسؤولية جسيمة أمام جلالة الملك وأمام الأمة باعتبار أن ممثلي الأمة هم من سينتخبون القضاة، وأن المشرع الدستوري حينما اشترط ثلثي أصوات البرلمان فلضمان الاستقلالية ولعدم الهيمنة، وهناك أشياء يمكن معالجتها بواسطة القانون كهذه الأخيرة، غير أن هناك أشياء لا يمكن معالجتها إلا بالصدق والنزاهة.

*محام ونائب رئيس مجلس النواب باسم الأصالة والمعاصرة.


ليست هناك تعليقات: