مركزتيفاوت الإعلامي
رشيد الحاحي
إذا كان مفهوم الاستبداد التقليدي يتلخص في التسلط وأساليب الاستفراد بالحكم والقرار السياسي والإداري والقانوني، وممارسة العنف المادي والقمع المباشر لإخضاع الجميع، فإن الخطاب السياسي المعاصر ومختلف النقاشات والتحاليل التي استأثر بها موضوع الاستبداد وأنماط الحكم، تقر بتعدد درجاته وأشكاله ومسوغاته حسب الدول والحكومات والمجتمعات والشروط التاريخية والثقافية والسياقات السياسية، ومن تم أمكننا الحديث عن أنواع من الاستبداد منها المطلق والجزئي، والعنيف والناعم، والمتنور والجاهل.
يعود أصل مفهوم الاستبداد المتنور إلى ذلك المذهب السياسي الذي ظهر في منتصف القرن الثامن عشر ميلادي بأوروبا والذي يحيل على الحكم المطلق المستند إلى "التفويض الإلهي" في حكم الإنسان والشعوب وتولي أمر الدولة، والذي كان بعض مشاهيره السياسيين كفردريك الثاني وجوزيف الثاني وشارل الثالث...، يرتبطون بفكر الأنوار ومثقفي حركة التحديث التي عرفتها بلدانهم، بل أنهم تبنوا أطروحاتهم ودعموا مشاريعهم. لكن، بشكل عام، يمكن القول أن الاستبداد المتنور يطلق على الحكم المطلق الذي يفتقد إلى الشرعية الديمقراطية وأصول التعاقد الاجتماعي بمفهومة الحديث، لكن المتميز بالعمل على تطوير الدولة والمجتمع وتحديثهما وتحقيق مشروع إصلاحي ينال دعم واستحسان القوى المتنورة خاصة الثقافية والفكرية التي تتقاسم مع الحاكم جزء أساسي من مشروعه وتعي رهانات تحقيقه وعوائق ذلك في بنية مجتمعية وسياق تاريخي وسياسي غير مواتيين.
فيما يرتبط مفهوم الاستبداد الناعم ببعض التجارب الديمقراطية المعاصرة، ويعرف عادة بالاستفراد بالحكم بمسوغات ديمقراطية ودستورية، وفي إطار ممارسة سياسية وإدارية مختلة أو معطوبة، حيث ترتبط صفة النعومة بقدرة بنية الحكم وأساليبه على التخفي والاستغناء عن العنف المادي المباشر واعتماد إستراتيجية للاحتواء والاختراق والتوجيه تخضع مختلف مكونات المجتمع وقواه بشكل يضمن له استمرارية حكمه ومصالحه عبر ممارسة سياسية وديمقراطية خادعة أو متحكم فيها. كما يمكن أن يرتبط الاستبداد الناعم بنمط حكم ديمقراطي وتأويل دستوري تتحول فيه الدولة أو الحكومة إلى الفاعل السياسي والتشريعي والتنفيذي الوحيد، عبر إقصاء بقية المكونات خاصة المعارضة والمجتمع المدني والإطارات المعنية بالشأن الديمقراطي والحياة العامة وتدابير الدولة وقراراتها، مما يفقد الممارسة الديمقراطية مفهومها الحقيقي وقيمتها التمثيلية والتشاركية، وتتحول إلى مجرد آلية فجة لاستبداد الأغلبية العددية أو بالأحرى الأقلية المنتخبة.
شكلت نتائج الحراكات الشعبية التي عرفتها بعض دول شمال إفريقيا مند سنة 2011، والتي أفرزت بنية قوى جديدة ووصول بعض الأحزاب الإسلامية إلى الحكم في عدة دول، فرصة لتجريب وامتحان الثقافة السياسية والمشروع الحزبي والفهم الديمقراطي لدى هذه القوى الجديدة، ولإعمال جانب من النظريات السياسية والنقدية المعاصرة في التقييم والحكم على تجارب الحكم الجديدة، خاصة فيما يتعلق بالعلاقة بين الديمقراطية والأغلبية العددية التي تبقى نسبية، وحدود المشروعية التي تفرزها الانتخابات وصناديق الاقتراع، والربط بين الديمقراطية والتدبير السياسي والإرادة العامة التي لا تمثلها التمثيلية الانتخابية ولا الحزبية وأرقامها. وفي هذا الإطار، تم التأكيد على أن حكم الشعب لا يتم عبر انتخاب جزء منه لممثليه إنما يتجلى ويتحقق من خلال إعمال مبادئ الديمقراطية باعتبارها آلية للتداول وحماية وخدمة مصالح ووجود كافة مكونات الشعب باختلافاتها الإثنية والثقافية والإيديولوجية والسياسية والاجتماعية، وإعمال الديمقراطية التشاركية وآليات التشاور والتشارك والنقاش العمومي في سن القوانين واتخاذ القرارات وتدبير مؤسسات الدولة.
وقد كان أول امتحان في هذا الباب هو تجربة الرئيس المصري السابق محمد مرسي وحزب الإخوان الذي اعتبر نتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية التي عرفتها مصر بعد الانتفاضة الشعبية، بمثابة تفويض مطلق لحكم الحزب وتنزيل مشروعه السياسي. وقد واخذت بقية المكونات السياسية والحقوقية وفئات المجتمع على مرسي وحزبه عدم مراعاة أصول الديمقراطية ومفهومها الشامل وإرادة الشعب بمختلف مكوناته، مما حدا بالرئيس مرسي ونخبته الجماعية إلى إقصاء المعارضة وبقية المكونات السياسية والنقابية والثقافية والحقوقية، والسعي المتسرع والجاهل إلى تصريف اختيارات ومرجعية الجماعة والاستفراد بالحكم بشكل أفصح عن إرادة "أخونه الدولة".
كما أطلقت بعض الكتابات التحليلية والأصوات السياسية نفس الصفة أي الاستبداد الناعم على حكم طيب أردوغان في تركيا، خاصة بعد محاولاته التضييق على صلاحيات البرلمان لصالح النظام الرئاسي، والتضييق على التعددية السياسية وصلاحيات المعارضة وتهميش الفاعلين الاجتماعيين والاستفراد بالقرار، ومحاولة التراجع عن بعض أسس ودعامات النموذج الديمقراطي التركي المعاصر، مما يفصح حسب المنتقدين عن ميول استبدادي في الحكم وشخصنة الدولة والمؤسسات.
انطلاقا من التوضيح السابق، ومقارنة بصفتي التنور والنعومة اللتان أقرن بهما المصنفون بعض أنواع الاستبداد، يمكن الحديث أيضا عن الاستبداد الجاهل والذي يمكن تعريفه بأشكال الممارسة السياسية وسلوكيات الحكم الخشنة التي تستند إلى فهم محدود للمشروعية الديمقراطية وآلياتها التمثيلية، وتتحايل على المقتضيات الدستورية وتعاقداتها، وتستفرد بالقرار والتشريع والتدبير في تجاهل وإقصاء تام لبقية مكونات المجتمع والفضاء السياسي والمدني والثقافي، وذلك بشكل استبدادي مغلف أو متحايل، وبمبررات ذاتية أو اختزالية، تنهل من مرجعية وثقافة لا ديمقراطية وتعكس سلوكا في الحكم شخصانيا أو فئويا ودوغمائيا.
بهذا المعنى، ومقارنة بالاستبداد المتنور والناعم، فالاستبداد الجاهل يحاول توظيف الديمقراطية كآلية تمثيلية لتبرير تسلط فئة معينة، ويعتبر نتائج الانتخابات تفويضا مطلقا للاستبداد بالتدبير والقرار، ويتملص من مسؤولياته ومقتضيات الدستور أو يؤولها ويفرغها من مضمونها، كما يستند في ذلك إلى اختيارات ومسوغات ومقولات تناقض تماما الديمقراطية بمفهومها الحديث ومنظومتها الفكرية والحقوقية الشاملة مما يضفي عليه صفة الخشونة أو الجهالة.
ومن علامات الاستبداد الجاهل أيضا، زعم امتلاك الحقيقة وجادة الصواب في الممارسة السياسية واعتبار الآخرين مخطئين وقاصرين أو غير مؤتمنين، وذلك انطلاقا من مرجعية أخلاقية أو عقدية أو إيديولوجية متصلبة. ومن علاماته أيضا ممارسة التدبير السياسي بحس أبوي خشن وتوهم معرفة مصلحة الآخرين أكثر منهم أنفسهم وما يترتب عن ذلك من سلوكيات العجرفة والاحتقار. أضف إطلاق المسؤول السياسي للكلام على عواهنه، والبحث في النصوص المقدسة عن تبريرات أو إحالات للقرارات والتدابير السياسية ، بل وللأخطاء والإخفاقات وأشكال التسلط الجديدة.
هذه بعض من علامات الاستبداد الجاهل أو الخشن لأنه ليس بمتنور ولا بناعم، ويشكل أخطر أشكال الاستبداد تهديدا للديمقراطية وسير المؤسسات وتعاقدات الدساتير بل ولوجود الدول ومستقبلها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق