بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 11 فبراير 2016

إيديولوجية اللغة ورهانات المدرسة

نتيجة بحث الصور عن عبداللطيف وهبي
مركزتيفاوت الإعلامي
عبداللطيف وهبي
ليس هناك موضوع يشكل محط خلاف اليوم مثل مسألة المدرسة العمومية، فإشكالية التعليم مؤرقة للجميع، الذي يلتقي، في الجواب عن سؤال هام مضمنه: كيف يمكن أن نعلم أبناءنا ليصبحوا الأفضل في المستقبل؟

إن الإجابة عن هذا السؤال تطرح صعوبة عملية تتجلى في أننا نريد المساهمة في بناء عقول يشارك في تكوينها محيط عريض ومعقد، يتقاطع فيه ما هو بشري بما هو افتراضي، ناهيك عن تداخلات كثيرة في مقاربة موضوع إصلاح التعليم عموما. وهذا ما حدا بجلالة الملك أن يكلف كلا من وزير التعليم ووزير الشؤون الإسلامية بالانكباب على موضوع محدد داخل منظومة التعليم وهي التربية الدينية، وربط ذلك بالقيم الإسلامية الوسطية، استنادا على المذهب السني المالكي، بهدف بلورة رؤية معتدلة، منفتحة على الثقافات والحضارات الإنسانية الأخرى من خلال مبدأي التسامح والتعايش.

إن ملامسة هذا الموضوع كثيرا ما تنتقل من العلمية إلى الإيديولوجيا، من الثقافة المسؤولة إلى السياسوية الضيقة. والكل يعتقد أنه الوحيد الذي يملك الحقيقة، بينما الحقيقة موزعة بين أطراف عدة يصعب الجمع بينها، أو حتى مد جسور بينها، فقدرها الطبيعي أن تختلف وتتعارض، لأن تأثير المدرسة لا يهم فقط مواد مدرسة بل يطرح ما تفرضه هذه المدرسة من أنماط محددة في التفكير، لكونها مجرد وسيط بين أفكار معينة وعقول مهيأة أو مستعدة، مما يجعل النقاش اليوم، عند محاولة معالجة أزمة التعليم، يتجزأ بين عدة أبعاد ومستويات.

وما يهمنا بخصوص منظومة التعليم هو جانب لغة التدريس، أي تعاملنا مع اللغة التي سنؤسس عليها مدرسة عمومية تكون قادرة على مواجهة تحديات هذا القرن. وما يجب أن نؤكد عليه هو ضرورة استحضار الطفل بدل أن نلغيه حينما نتعامل بمنظور سياسوي مع موضوع اللغة، ذلك أن للغة خلفيتها، واعتباراتها وهي مفتوحة على توظيفات متباينة، وكل يسعى إلى فرض لغته كوسيلة للتطور، ويبقى الطفل هو الطرف المتلقي وليس المساهم.

إن حقيقة الحضور السياسي في موضوع اللغة تحركه خلفيات إيديولوجية بالأساس، ذلك أن السياسة المغلفة بالدين تستند في كثير من الأحيان على اللغة لتمرر ما تستهدفه بنوع من الخلط مع ما أتى به الوحي. وهكذا تظل المدرسة عاجزة أمام هذا التسريب، خاصة وأنها تعتمد على العقل، والعقول هنا ليس لها بعد القدرة على التفكيك والتحليل، فتصبح اللغة في هذه الحالة وسيلة إيديولوجية من أجل الهيمنة والسيطرة وليس من أجل التكوين وإعداد الطفل.

وهكذا فغالبا ما يقوم البعض بإلغاء اللغات الأخرى انطلاقا من قناعات دينية أو من ظلم التاريخ وهيمنته، والبعض الآخر يتعامل مع هذه المسألة تحت تأثير استعمار قريب، بينما المنشود هو استيراد لغة تهيمن على العالم (لغة المال والأعمال)، فلكل خلفياته ولكل رهاناته، وكل يدافع بعنف على لغة معينة. مع سعي واضح نحو الإقصاء المطلق للغات الأخرى، بما في ذلك من يرى أن استعمال لغة أخرى غير اللغة العربية يعد إفسادا واختلالا سياسيا.

إن اللغة العربية في استعمالها هي أكثر اللغات التي تعرضت لشحن إيديولوجي مكثف نظرا لارتباطها بما هو ديني حسب البعض، حيث يرى فقهاؤها أنها أصل البيان، و بها نزل القرآن ومن خلالها تفرض قول الشهادتين، ولأن العرب خير أمة، وبالتالي فلغتها هي الأفضل.

في هذا الصدد يتم مثلا إلغاء التاريخ الجاهلي رغم أن للجاهلية لغتها العربية وقصائد شعرها ذات النفحة الخمرية الواردة بمعاصي الجنس المرفوض من طرف الإسلام. غير أنه عادة ما يتم تجاوز محطتها في مرحلة الجاهلية بالقول إن العربية لغة الجنة وبواسطتها علم الله آدم الأسماء كلها.

إن اللغة العربية بحجمها التاريخي الممزوج بالدين تواجه اليوم تحدي علمي مقارنة بلغات هذا العصر. وعوض تقليص هذه الهوة العلمية من خلال صهرها في حداثة تسمح بالإبداع وتتجاوز ما هو متخلف حتى ولو كان من المكونات ذاتها نحو الأفضل ونحو الآخر لتضمن استمرارها. وهو مسار سيحسن بالتأكيد ليس فقط دورها ولكن كذلك الوضع العلمي والاجتماعي وحتى السياسي للشعوب التي تستعملها.

وبدل هذا المسار الذي يبدو سليما فإن البعض يصر على توريط اللغة العربية في الحسابات الأيديولوجية والسياسية بشكل عنيف، وهو ما يقزمها. وكل ذلك يتم تحت غطاء أن اللغة العربية تقرب من الدين، والدين أصبح يغلف بالسياسة، وبالتالي فوجود اللغة العربية يضمن قوة في السياسة. وطبيعي أن يدافع عنها من هو في هذا الموقع، ومن ثم فالإشكال ليس في اللغة ولكن في من يريد توظيفها، فكم من سلطة تأسست باللغة وكم من لغة دمرت السلطة.

غير أن ما لم يفهمه هؤلاء كي يكونوا فاعلين في زمنهم هو ضرورة تجاوز الكثير مما هو محسوب على الجوانب غير المجدية من الماضي، حتى يضمنوا الاستمرارية في الوجود نحو المستقبل، لأن الحداثة كوسيلة للتجاوز والتطور لابد أن تواكبها اللغة من أجل بناء مدرسة للمستقبل تنتج عقولا تضمن استمرارية الوجود للإنسان الذي لا يتنكر لماضيه ويعمل على التقدم ومواكبة العصر في حاضره ويتطلع إلى التطوير والارتقاء في مستقبله.

أما اللغة الأمازيغية ورغم أن البعض يدعي أنها تقاوم فقط لتفرض وجودها، فإننا نعتقد أنها تتبوأ الصدارة لما لها من قدرة على الصمود قرونا في مواجهة لغات عدة حاولت الهيمنة من خلال إلغائها، وكذلك في مواجهة لغة تملك شرعية الدين.حيث استطاعت الأمازيغية أن تتعامل معها بنوع من الاستيعاب المحافظ على الوجود وقبول الآخر. وهكذا حضرت في السياسة كانتماء جغرافي وغابت عنه تارة كخطاب لإدارة الشأن العام.كما حاولت الحضور تارة أخرى وطنيا وعند الأزمة تتقلص قبليا لتحافظ على نقاوة وجودها. ولكن سرعان ما تثور لتعود من جديد أمام لغة عربية تملك شرعيتها السياسية كما أسلفنا من خلال شرعيتها الدينية، "فالخليفة خليفة الله في أرضه من خلال الدين الإسلامي، والعرب لا يحصل لهم الملك إلا بالنبوة" (ابن خلدون)، وبغض النظر عن هذه الشرعية التاريخية فاللغة الأمازيغية لم تتنازل عن حقها في الوجود الثقافي والسياسي، اعتبارا لقدرتها على الحضور في فسيفساء لغوية دون شعور بالنقص أو تنازل عن الموقع وقدرتها على الاستيعاب لإدراكها أن السياسة مرتبطة بالمواطنة وهذه الأخيرة لا يتحدد الانتماء إليها باللغة ولكن بالانتساب إلى الوطن بكل لغاته وبكل الديانات المتعايشة على ترابه، ولنكون مواطنين فوق كل اللغات يتعين أن نؤسس لمشروعية في النقاش السياسي تسمح لكل منا الإسهام فيه باللغة التي يستعملها ضمن مجتمع من خياراته الإستراتيجية التعددية اللغوية. وهذه هي الحداثة التي نستهدفها وهي موضوع مصيري. غير أن البعض يعيش نوعا من صدمة الحداثة كما يسميها أدونيس، فالثوابت تجمعنا واللغات لا يمكن أن تفرقنا، ذلك أن اللغة الأمازيغية بقدر ما فتحت ذراعيها للمقبل عليها، تتحرك ليس فقط من أجل تطوير ذاتها ولكن كذلك من أجل تطوير محيطها بشريا، أي أنها تتجه نحو الحداثة، فالوجود الأمازيغي مرتبط بالمواطنة والحقوق أي أنه موضوع الحداثة بامتياز.

وبعد كل هذا ليس من الغريب إذن أن يمارس رئيس الحكومة هجوما على وزيره في التعليم وأمام الملأ، كأنه يريد أن يعطينا درسا كيف يدار قسم مدرسي من الوزراء، فالتلميذ الوزير تجرأ على العربية من أجل الفرنسية في جزئيات قد لا يكون لها تأثير على المنهاج العام؛ ذلك أن رئيس الحكومة لم يكن يستهدف سوى توجيه رسائل اطمئنان إلى حوارييه وحاملي إيديولوجيته.

ودعونا ننطلق من حسن النية فلا نعتبر أن السيد رئيس الحكومة أراد بعث رسائل أخرى إلى جهات لا أرغب حتى في التفكير فيها، فالدولة بقدر ما تكمن في القرارات تكمن كذلك في الرسائل اللغوية، ربما لأنه يعلم أن اللغة حينما تختلط بالدين تتحول إلى إيديولوجيا، ولا يعلم أنه حينما تصبح وسيلة لتطوير إلمامنا العلمي تصبح مشروعا حداثيا وطنيا، وهو يعيش مأزق العلاقة مع الحداثة، فهي في رأيه بدعة، والبدعة ضلالة، غير أنه نسي أن من أسماء الله الحسنى "البديع"، فالإبداع ليس دائما إفسادا وليس جريمة محسوبة على اللغة، بل هو سلطة المرحلة وتحدي الشعب من أجل تطوير مدرسته وضمان استمرار الدولة، وهو ما يفرض عليه إيجاد حل لهذا الإشكال عوض مهاجمة كل من يقترب من لغة تقدس باسم الدين على حساب حرية التفكير، ربما لخدمة حساباته السياسية.

أما المستقبل ولغة الإفرنج فهو موضوع مؤجل لديه، ربما إلى ما بعد مرحلة التمكين، عفوا إلى ما بعد مرحلة الأزمة بكل تجلياتها.

يبدو أن الإيديولوجيا أصبحت تقرر في العلم، تضع أسس المستقبل حتى على حساب حق المواطن في الحداثة. وبصيغة أخرى لماذا سيحتاج هذا الأخير إلى لغة عالمية كي يتواصل مع العالم؟ على المغاربة أن يتواصلوا فقط مع مشروع حزب عقائدي. وهو ما يمثل حدود العالم بالنسبة لمن يقف وراء ذلك المشروع. وهكذا فالسعي إلى الجنة يعتبر مشروعا مؤجلا ومتوغلا في غياهب السماء، أما على الأرض فلا يحمد على مكروه العيش في ظل أزمة اقتصادية بشرية سواه.

وهذا الخلاف انتقل ضمنيا إلى ما جاء به المجلس "الاستشاري" الأعلى للتربية والتكوين، حيث جاء هو بدوره متحدثا عن اللغة كوسيلة للتعلم، داعيا إلى وضع إطار مرجعي مشترك للغات الوطنية والأجنبية، وإلى مواصلة تهيئة اللغتين العربية والأمازيغية، ثم الارتقاء بمستوى التدريس و التأطير التربوي في المرحلة الثانية.

إن هذا المجلس ذو الصفة الاستشارية الذي يحاول البحث عن عقلانية المدرسة بعيدا عن إيديولوجية اللغة قد أخطأ حين حاول تحقيق ذلك بالإجماع، فالإجماع ليس ضروريا من جهة استشارية، وإن كانت المدرسة تتطلب خيارات لابد أن تكون متقاسمة وتمنح فرصا متكافئة في التعلم واكتساب المعرفة واللغة لجميع المتعلمين دون أي تمييز.

ويبدو أن البعض لم يرقه أن توضع اللغة العربية في نفس مستوى اللغة الأمازيغية وغيرها من اللغات، وعليه لماذا سيقوم رئيس الحكومة بتأطير مشروع لا يبوئ لغة إيديولوجيته الصدارة ويعتبرها كذلك عن حق أو عن باطل أو لنقل عن إيديولوجية متخفية؟ ليختار المواجهة مع وزيره في التعليم -إذا كان بالفعل هو الجهة المقصودة- على مستوى اللغة بذل إيجاد حل لإشكالية اللغة في حد ذاتها داخل منظومتنا التعليمية. ترى إذن هل يجب أن نعالج مشكل إيديولوجية اللغة أم نعالج اللغة كعمود فقري لإصلاح المدرسة العمومية؟ هل نخاف على الدين من لغة العلم وقد تكون لغة العجم أهل الكتاب والكفر؟ أم نخشى على العلم من لغة الدين؟ وبذلك يصبح الفقهاء علماء العصر وعلماء العجم مجرد كوكبة آتية من عالم الجاهلية؟

يبدو أن مسؤوليات السيد رئيس الحكومة تفرض عليه الانتفاضة شيء ما ضد رصيد فكره الماضوي للنظر ولو خلسة إلى المستقبل، فليس في الأمر كفر، بل ديمقراطية ومسؤولية اتجاه أجيالنا المقبلة.

إن اللغة العربية تراثنا ومستقبلنا و اللغة الأمازيغية وجودنا وماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، و قيمتهما تكمن في التفاعل مع لغات أجنبية أخرى كيفما كانت حتى نستطيع أن نتعايش مع الآخرين، وحتى لا نغرق في إيديولوجية لغوية رخيصة على حساب وضع فلسفة سياسة تعليمية تستند على تراثنا وقناعاتنا العقائدية وتاريخنا أي على أصالتنا، وتنظر بشجاعة وبنزاهة وعزم وثقة إلى الآفاق والمستقبل لبناء معاصرتنا على أسس تتوافق فيها اختلافاتنا الثقافية واللغوية.

*محام ونائب رئيس مجلس النواب باسم الأصالة والمعاصرة

ليست هناك تعليقات: