مركزتيفاوت الإعلامي
يعد كتاب الأمم والقومية* لإرنست غيلنر(1929- 1995) أحد ابرز الكتب التي تعالج موضوع الأمة والقومية وعلاقاتها مع كل من المجتمعات والدول، وبالتالي هو بحث جاد وثاقب في سبر جوهر الظاهرة القومية، وسعي لدراستها بموضوعية، إضافة لتناولها بعين ناقدة. وربما هو أكثر من رجح النظر للقومية كظاهرة تبلور ثقافي، فلماذا هذا الترجيح الشديد لدور الثقافة في التكوين القومي؟!.
عند قراءة الكتاب الذي يتوزع على (256) صفحة يتضمن فصول وفقرات مطولة تناقش وتعالج محاور أساسية للبحث، أهمها موضوع علاقة الثقافة بالقومية وبخاصة في كل من المجتمعين الزراعي والصناعي. ومن ثم يأتي في المرتبة الثانية من اهتمام الكاتب تعريف الأمة "ما هي الأمة". ويتسلسل البحث ليتناول نماذج متعددة من القوميات والظواهر القومية، وصولا إلى دراسة الأيديولوجية والقومية. وأخيرا يستشرف غيلنر في كتابه هذا مستقبل القومية.
اذن من الصعب أن نتعرف على تفاصيل هذا الكتاب عبر اختزاله، لأن الكتاب نص مكثف، ولا يتوزع على فصول متسلسلة ومترابطة. إنه كتاب من النوع الذي يطلق أفكارا جديدة، وينتقد أيضا أفكارا قديمة ومألوفة في المسألة القومية. لذلك سألقي الضوء على بعض الأفكار والبؤر النظرية التي تدور حولها مفاهيم ورؤية أرنست غيلنر للظاهرة القومية في المجتمعات المعاصرة .
كمنطلق لبحثه يعد غيلنر القومية "عاطفة"، وتستند عاطفة الإنتماء القومي إلى الأثنية، التي ترتبط وتتفاعل معها ومع الدولة أيضا، وقد تنبثق عنهما، ولكن القومية في المحصلة هي "ثقافة رفيعة".
أما الأمم والدول فهما عند غيلنر مجرد إحتمال وليست ضرورة شاملة، إذ لم توجد الأمم ولا الدول في كل الأزمان وفي كل الظروف، يضاف إلى ذلك إن الأمم والدول ليست الإحتمال نفسه، بل قد تحقق واحدة منها قبل الأخرى (ص24).
يستنتج من قراءة الكتاب أن جوهر فرضيته تكمن في إن القومية تستند دائما إلى ثقافة رفيعة مكتوبة، وهذه الثقافة الرفيعة الراقية التي ينبغي لها أن تكون مدونة في مرحلة مبكرة من التاريخ، قلما تتوافر في المجتمع الزراعي: "الثقافة الرفيعة تتظلل المجتمع بكامله، تعرفه وتحتاج إلى إن تكون مدعومة من قبل الدولة، هذا هو سر القومية." (ص45).
القومية لابد إن تنظم المجموعات الإنسانية في وحدات كبيرة ذات تعليم رمزي منسجمة ثقافيا. وهذا ما تحقق ويتحقق أكثر في المجتمع الصناعي الذي يتميز بالقراءة والكتابة الشاملة لكل إفراد المجتمع، وقد تكون ثقافة منقولة مدرسيا وليس شعبيا. وبصيغة ما يرى الباحث أن الثقافة القومية المعاصرة قد تنتج من التعليم المدرسي الموحد التي تنشره مؤسسات الدولة. وبهذا الشكل تبدو العلاقة جدلية بين الثقافة الخاصة المكتوبة لقومية ما والدولة القومية من جهة أخرى، هذه الدولة التي تنشر وتعلم في إطار هذه الثقافة القومية وتعيد إنتاجها من جديد. "ذلكم هو ما تسعى إليه القومية، ولماذا نحن نعيش في عصر القومية". (ص79).
لكن ليس كل مجموعة تمتلك لغة تصبح قومية؛ فهنالك في الواقع قوميات كامنة وقوميات فعالة قادرة أن تحقق معادلات الإنسجام والتطابق بين القومية والأمة والدولة، ففي حالات نادرة يستقر الدين ليحل محل حقل القومية لفترات طويلة وفي مجتمعات محدودة.
يعتقد غيلنر أن الإسلام كان قادرا على إنتاج ثقافة رفيعة في المجتمعات الزراعية وهيأت الأرض لنشوء "قومية عربية" بسرعة وبدون المرور بمرحلة التصنيع. فالإسلام كدين توحيدي مهد كثيرا للتخلص من البنى القرابية وهيأ الأرضية لظهور القومية العربية بدون محفزات المجتمع الصناعي.
وفي حالات أخرى يمكن أن تكون القومية تطورا لحالة قبلية متفوقة في ظروف خاصة وتجاوزا لها. فالقبيلة لا تزدهر أبدا لأنها عندما تزدهر سوف يحترمها كل إنسان على أنها قومية حقيقية ولن يجرؤ أحد على دعوتها بقبيلة.
أما نماذج القوميات فهي تختلف من حالة إلى أخرى، وما يحددها وأحيانا يصنعها هو العامل الحاكم المنتج لها، وأولها هي السلطة الممركزة، فلا قومية بدون سلطة دولة ممركزة. وبالتالي لا مجتمع حديث بدون تمركز سلطوي. فعلى الأرجح ثلاث عوامل حاسمة هي التي تؤسس القومية المعاصرة: "السلطة، التعليم الموحد، الثقافة المشتركة الرفيعة."
وفي ظروف استثنائية، وضمن حالات خاصة ببعض القوميات الشرقية لا توجد ثقافة رفيعة لتؤسس لها، بل الفكر القومي والشعور القومي السياسي ذاته يتحول إلى نشاط خاص نيابة عن الثقافة الرفيعة، ويسعى لأن يؤسس لكيان قومي. ويتطلب ذلك أيضا قدرا من الهندسة الثقافية القوية جدا كما في "حالة إسرائيل".
أما بصدد استشراف مستقبل القومية والدولة القومية، يرى ايرنست غيلنر إن القوميات ستبقى على الأرجح لفترة طويلة، والتطور القومي مرتبط مع التطور الاقتصادي وشكل الدولة القومية التي هي حامي للثقافة وللإقتصاد الوطني أيضا. ومن الممكن أن يجري تعديل مستقبلي للقومية، فدرجة الحماس القومي مرتبط بالوفرة والتنافس الاقتصادي. (ص209).
كما يمكن توقع تضاؤل حده النزاعات القومية، إذ أن ما يجعل هذه النزاعات حادة هي الفجوات الاجتماعية التي خلقتها الصناعة المبكرة، والانتشار غير المتساوي لها.
إن المهارات العامة المشتركة المعتمدة على ثقافة رفيعة مشتركة هي التي تعرف أمة ما، هي ففي الوقت نفسه تلك التي تشغل الجزء المهم والمانح للهوية: من تعليم المرء وتكوينه. أن مثل هذه "الامة/ الثقافة تصبح عندئذ فقط الوحدة الاجتماعية الطبيعية، وهي لا تستطيع البقاء على قيد الحياة إعتياديا من دون قالبها السياسي الخاص بها أي الدولة". (ص 256).
إن افكار ونظرية غيلنر لا تنفصل تماما عن سيرة حياته، التي بدأت بولادته عام 1929 من أبوين يهودين في تشيكوسلوفاكيا، وبعد صعود هتلر في ألمانيا غادر أهله تشيكوسلوفكيا إلى شمال لندن، حيث أنهى تعليمه الجامعي وحصل على شهادة الدكتوراه في سنة 1961. وكانت أطروحته في التنظيم القومي للأمازيغ، الذين إهتم بهم كمجموعة أثنية – قومية بدون دولة. يبدو أن حياته القاسية ويهوديته قد أثرت على مفهومه ومنهجه لتعريف وتوصيف الظاهرة القومية كظاهرة ثقافية في المقام الأول، فثمة تساؤل يفرض نفسه عند التدقيق في منظومته البحثية، وتتلخص في درجة تأثره منهجيا بيهوديته، فهل ترجيحه للثقافة المدونة كأساس للقومية جاءت من هذه الزاوية، أم أن النظرية الاجتماعية - الإقتصادية لقريبه ماركس في الحقل ذاته تبعد عن غيلنر الشبهات.
مهما تكن درجة دقة تناول غيلنر للقومية وسويتها العلمية، فإن أحد أهم نتائج قراءة هذا الكتاب المميز توحي بأن القوميات التي تعاني من معضلات كبرى عليها البحث عن الإشكالات والمسببات في جذروها الثقافية، وأن يتم تلمس الحل في الحقل الثقافي قبل غيره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق