بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 25 أغسطس 2014

الأمازيغية، الشعوب الأصلية، الأرض والسلطة



مركزتيفاوت الإعلامي

رشيد الحاحي

احتفلت العديد من شعوب العالم خلال هذا الشهر باليوم العالمي للشعوب الأصلية، ونظمت عدت إطارات مدنية بالمغرب لقاءات وندوات بالمناسبة بهدف استحضار وضعية الدونية التي يعاني منها جل المواطنون والمواطنات المغاربة الأمازيغ، إضافة إلى غيرهم من أصول وانتماءات ثقافية أخرى، على المستوى الثقافي والاجتماعي والسوسيو اقتصادي. وقد اختارت الجمعية العامة للأمم المتحدة لاحتفالات هذه السنة شعار: "سد الفجوة، تنفيذ حقوق الشعوب الأصلية".

يثير مصطلح الشعوب الأصلية Les Pays autochtones في ارتباط بخطاب الحركة الأمازيغية في المغرب بعض الغموض والأسئلة خاصة أنه كثيرا ما يثار ويستشهد به من قبل بعض التيارات والمكونات السياسية خاصة في صفوف الجماعات الإسلامية والأحزاب القومية التي توظف هذا الانتساب أحيانا بشكل مغرض لمهاجمة الحركة الأمازيغية التي تتبنى ميثاق الأمم المتحدة حول حقوق الشعوب الأصلية في نضالها وترافعها، بدعوى أن وضعية الأمازيغية والأمازيغ في المغرب، ليست بقضية مثل قضايا الشعوب الأصلية، وغالبا ما تستحضر هذه التيارات في هذا النقد مبررا وحيدا هو كون الأمازيغ في المغرب لا يشكلون أقلية. وهنا نود توضيح دلالات هذا المفهوم، وأبعاد العلاقة وامتدادها بالنسبة للحركة الأمازيغية في المغرب.

صحيح أن تسمية الشعوب الأصلية وامتدادات الميثاق الأممي تشمل أيضا المجموعات الإثنية الصغرى والشعوب المعزولة التي تعيش أوضاعا مهمشة، وأحيانا حتى القبائل ومجموعات القناصين أو الرحل المزاولين لتقاليد محدودة. كما أنه في بداية النضال على مستوى الأمم المتحدة، لم يكن يطلق اسم الشعوب الأصيلة إلا على الشعوب التي تعيش في المستعمرات الأوروبية القديمة في أمريكا واستراليا ، وبالنسبة لشعوب إفريقيا وأسيا يظل استعمال هذه التسمية مثيرا للسؤال باعتبار أن عملية جلاء الاستعمار رافقها إدماج أو توظيف النخب المحلية في الحكم والسلطة. إضافة إلى النقاش الذي يثار حول الحقيقة التاريخية للأصلية autochtonie وعن الشعب الأول والأسبق.

لكن إدا عدنا إلى كلمة autochtone ذاتها التي تترجم إلى العربية بالأصلي أو الأهلي، نجدها تعود في الأصل إلى الإغريقية وتعني "ابن الأرض أو سليل التراب ذاته" issu du sol même ، مما يعطى لمفهوم الشعوب الأصلية حمولة ترابية وهوياتية وثقافية، انطلاقا من الانتماء إلى الأرض أي موطن وجودها، وهذه العلاقة كفيلة بربط دلالات الانتماء والأصلية بأبعادها الحقوقية والسياسية، وبإطار المواطنة والحياة الديمقراطية وبنية الدولة الحديثة.

حسب إحدى وثائق الأمم المتحدة (U.N. Document E/CN.4/Sub.2/L.566, Chapter 11). تتمثل المعايير الأربع لمبدأ الشعب الأصلي le principe d’autochtonie في الاستمرارية التاريخية، أي وجود استمرارية بين السكان أو الشعب والسكان الأوائل لبلد ما قبل اجتياحه أو استعماره. ثم في الاختلاف الثقافي، فالشعوب الأصلية تعتبر نفسها وتحس بأنها لا تنتمي إلى الثقافة المهيمنة في المجتمع الذي تنتسب إليه، حيث تسعى إلى الحفاظ على خصائصها الثقافية واللغوية وتنظيماتها السوسيو سياسية. ثم خاصية الاهيمنة la non dominance أو بالأحرى الخضوع للمهيمن، حيث تبقى الشعوب الأصيلة على هامش المجتمع وبنيات الدولة، ويتم إقصاؤها من مجالات السلطة والتدبير والاعتراف بالوجود الثقافي والسياسي. وأخيرا،الانتماء الذاتي L’auto-identification والمقصود به امتلاك الأفراد لوعي بالانتماء إلى شعب أصيل وقبول المجموعة الأصيلة بالفرد الراغب أو الواعي.

من الواضح أن هذه المبادئ والخصائص الأربع تنسحب بشكل جلي على الأمازيغية والأمازيغ، إلا أنه يجب تسجيل بعض الخصائص الإضافية التي تطبع الوجود الأمازيغي بالمغرب على المستوى التاريخي والثقافي والسياسي.

فعلى المستوى السياسي، بعد جلاء الاستعمارين الفرنسي والإسباني تم استدماج النخب الأمازيغية التقليدية داخل النظام السياسي والإداري للدولة العصرية، خاصة داخل الإدارة والأحزاب، فتم توظيف بعض الأطر المتعلمة أو الحاملة لشواهد عليا داخل القطاعات الوزارية والإدارات العمومية، وتم استقطاب مجموعة منها إلى مصالح وزارة الداخلية، كما تم استدماج مجموعات أخرى داخل الأحزاب وفي الجماعات الترابية عبر الانتخابات وآلية إنتاج وتوظيف الأعيان في تمثيل البوادي والمناطق الأمازيغية، مما حال دون تشكل مجموعات مضطهدة معزولة، مع استثناءات ببعض المناطق خلال بعض الأحداث الشهيرة، خاصة بالريف والوسط والجنوب.

إلا أن حضور التمثيلية الأمازيغية على المستوى السياسي والإداري لم يكن يتجاوز مستوى الانتماء اللسني والجهوي المحكوم بالولاء التام للسلطة أو للأحزاب وخطاباتها الإيديولوجية ذات الشحنة القومية، وبشكل يمنع تشكل هذا الانتماء في إطار وعي هوياتي وسياسي أمازيغي بارز.

على المستوى الاجتماعي فالعنوان العريض لوضعية الأمازيغية والأمازيغ على امتداد أكثر من قرن من بداية تشكل وعمل الدولة العصرية، هو الاستيعاب الإيديولوجي والثقافي الذي يعززه الإطار الديني والقومي، مما حال دون تنامي الإحساس والوعي بالهيمنة الثقافية في صفوف مختلف شرائح المجتمع الأمازيغي باستثناء جزء من النخبة المتعلمة التي بدأت تدرك وضعية الإقصاء والهيمنة على الأمازيغية مند ستينيات القرن الماضي.

فالشعب المغربي شعب أمازيغي في عمقه التاريخي والاجتماعي، والمغاربة الناطقون بالأمازيغية والمنحدرون من الجهات والمناطق ذات التميز الأمازيغي يشكلون بالفعل أغلبية عددية وليسوا مجرد أقلية معزولة. لكن الإقرار بهذه الحقيقة الاجتماعية لا يتم إلا لنقد تبني الإطارات المدنية الأمازيغية لمقاربة الشعوب الأصلية وميثاق الأمم المتحدة في هذا الشأن، بل أن الدولة والعديد من مكونات المجتمع السياسي كثيرا ما حاولت تقديم وضع معكوس وطمس هذه الحقيقة الواضحة حيث تحاول باستمرار اختزال الأمازيغ في أقلية لسنية كما يتجلى من خلال مصوغات ونتائج إحصاء السكان.

فالأمازيغ يشكلون فعلا أغلبية عددية على مستوى الأصول الاجتماعية والمعطى اللسني، لكنهم أغلبية مهيمن عليها إيديولوجيا وثقافيا واقتصاديا، منعتها الدولة بسياساتها وأنظمة تنشئتها من الوعي بذاتها الأمازيغية، فعملت باستمرار على تذويبها داخل بوتقة النموذج الاجتماعي المستلب والمهيمن عليه. ومن تم صارت الأمازيغية قضية أقلية واعية بذاتها، تلك التي استطاعت بجهدها الذاتي الانفلات من البرديكم الاجتماعي المهيمن ومختلف آليات إعادة إنتاجه السياسية والثقافية.

وعلى المستوى الاقتصادي، فالملاحظ أن تفاقم مظاهر الاستغلال الاقتصادي ونهب الثروات والترامي على الأراضي وتحديد الملك الغابوي... خلال السنوات الأخيرة هي من أهم العوامل التي حركت الإحساس بالهيمنة والإقصاء وبالانتماء إلى الأرض في صفوف المواطنين الأمازيغ والإطارات المدنية والحقوقية المدافعة عنهم، ومن تم عودة الإحساس بالانتماء إلى الأرض كشعب أصيل مهضوم الحقوق.

انطلاق من مختلف الأبعاد التي استحضرناها خلال هذا التحليل، وشكل حضور خطاب الشعوب الأصلية في صفوف الإطارات المدنية الأمازيغية، من خلال مقاربتها الحقوقية ومرافعاتها وتقاريرها، وإطار الوعي النضالي والإجتماعي المميز لهذا الخطاب، وباستحضار كيفية تعاطي الدولة مع الأمازيغية وأشكال تدبيرها السياسي والثقافي للمعطى الديمغرافي والاجتماعي، يتضح أن هذا الحضور والمقاربة يختلفان عن تجارب أخرى في العالم خاصة المرتبطة بمجموعات بشرية أو أقليات معزولة، حيث يتعلق الأمر بالنسبة للأمازيغية والأمازيغ في المغرب بأغلبية مهيمن عليها، كما أن أفق تطوير هذه المقاربة يرتبط بشكل وطيد بموضوع وقضية الأرض والسلطة.

ومن تم، فبإمكان هذه المقاربة أن تؤطر أفاق تطوير الخطاب والعمل الأمازيغي خاصة على مستوى السياسة الترابية وما يرتبط بها من آليات قانونية وسياسية وتدبير الحياة الديمقراطية وتحقيق العدالة المجالية والتوزيع العادل للثروات، كما من شأنها أن تبرز العمق الإنسي والثقافي للمقاربة الأمازيغية لقضايا التنمية والديمقراطية والمواطنة، وأفاق التغيير الممكن.