النبش في تاريخ المغرب الراهن وفتح باب المكاشفة وحفظ الذاكرة هو العنوان العريض للندوة التي احتفت بصدور كتاب "محاكمة مراكش الكبرى" لسنة 1971، الذي جمع تفاصيلها النقيب الأسبق بهية محامي الرباط عبد الرحيم بن بركة، وهي الندوة التي عرفت حضور عدد من المحامين الُمنَصّبين في القضية وآخرين متابعين فيها، فيما غاب عن الحضور قيادات سياسية حالية خاصة من أحزاب خرجت من رحم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، أبرز حزب معارض في تلك الفترة والذي تنتسب إليه غالبية المتابعين في المحاكمة التاريخية.أمام حشد غفير من المُتتبّعين، وفي بسطه للأجواء العامة للمحاكمة الشهيرة، التي جرت أطوارها بمحكمة الجنايات بمراكش وتوبع فيها 193 متهما بتهم محاولة قلب النظام، قال الطيب الأزرق، المدير التنفيذي لمنتدى المحامين بالمغرب، إن تلك المحاكمة سجلت انتهاكا صارخا لكل ضمانات المحاكمة العادلة، "لقد أظهرت أن القضاء يجسد تبيعة مطلقة للنظام السياسي"، مشيرا أن المتابعين كانوا يمثلون رجالات الكفاح الوطني "حاول النظام تصفيتهم لأفكارهم المعارضة".
وأضاف الأزرق أن عدد الأحكام القضائية التي تليت كانت 8 أحكام، "توبع 193 من خيرة أبناء الوطن لا ذنب لهم إلا نشاطهم السياسي ونضالهم من أجل بناء مغرب حر"، مردفا أن المتابعات كانت على جرائم "المس بالأمن الداخلي للدولة ومحاولة القتل العمد والسرقة وغيرها"، "دامت المحاكمة حوالي 3 أشهر متواصلة من 14 يونيو 1971 إلى 17 أكتوبر.. ومرت في 64 جلسة دامت لـ290 ساعة".
وأورد المتحدث أن عدد الدفاع المؤازرين للمتهمين بلغ 52 محاميا، "14 من هيئة الرباط بينهم الراحل عبد الرحيم بوعبيد ومحمد بوستة، و22 من هيئة الدار البيضاء و4 من هيئة مراكش"، مضيفا أن المحامين كانوا في مهنية معتبرة، "مرافعاتهم تعد مصدر فخر واعتزاز في تاريخ المحاماة بالمغرب"، مسجلا لحظة "موقفهم الصامت" أمام المحكمة بعد التنسيق مع المتهمين.
الأحكام حسب الأزرق وصلت إلى 11 حكما بالإعدام و400 سنة سجنا نافذة موزعة على عدد من المتهمين، إضافة إلى المؤبد، والبراءة لاثنين فقط، "كانت مسرحية رهيبة في إطار قمع وانتقام جهنمي من المناضلين الذي كانوا يطالبون بالإصلاح".
أما النقيب عبد الرحمان بنعمرو، الذي أدلى بشهادته كمحامي نصّب في محاكمة مراكش الكبرى، فاعتبر أن الأخيرة تميزت بكثرة المتهمين والتهم الموجهة إليهم وتعدد أنواعها وكذا هيئة الدفاع والتصريحات الصادرة عن المحكمة، "كل المتابعين ينتمون الى الاتحاد الوطني الذي كان محور الصراع والمعارض الأول للحكم"، مشيرا إلى أن المحاكمة لم تكن الأولى أو الأخيرة "سبقتها محاكمة 1964 الكبرى، ثم محاكمات 1971 و1973 و1981 و1984".
وأضاف بنعمرو أن التهم الموجهة إلى المتابعين كانت "ملفقة وغير حقيقية وتستهدف إنزال أقصى العقوبات لإسكات صوت المعارضة"، مردفا "كانت محاكمة سياسية بكل امتياز، كانت ترمي إلى تصفية الحزب عبر استهداف مناضليه"، لافتا الانتباه إلى أن الأمر انتهى بهم إما بالاختفاء إلى الأبد أو الاعتقال أو الإصابة بالإعاقة والخلل العقلي نتيجة التعذيب.
وأشار بنعمرو إلى أن هيئة الدفاع لجأت في وقت محدد إلى الصمت بسبب كثرة الإعدامات التي أصدرتها المحكمة، والتي بلغت 49 حكما بالإعدام، موضحا أن المتابعين عرفوا بصمودهم وثباتهم على مواقفهم السياسية التي اعتقلوا بسببها.
وأوضح بنعمرو أن وقوع محاولة انقلاب الصخيرات في 10 يوليوز 1971 أدى إلى توقف المحاكمة لبعض الوقت "كان لذلك أثر على نتائج الأحكام"، مشددا على أن المعتقلين بسجن بولمهارز بمراكش كادوا يتعرضون لعملية تصفية على إثر تلك العملية الانقلابية الفاشلة.
محمد بنسعيد، الذي كان ضمن دفاع متهمي المحاكمة الشهيرة، قال في مداخلته إن المحاكمة كانت "معركة كبرى ضد نظام قائم على الجبروت والإرهاب والغطرسة"، "كانت محاكمة فريدة في تاريخ المغرب، نظرا للظرفية التي كانت تمر فيها، ولعدد المتهمين من مختلف الأعمار من نخبة المناضلين الوطنيين"، مشيرا إلى أن معارضة هؤلاء كانت "للحكم لا للحكومة".
وأضاف بنسعيد أن الدفاع المنصب لصالح المتهمين كان "كتلة متراصة وقوية ضد الأحكام الجائرة"، مضيفا "كانت ملحمة ينتظرها المغاربة في تطوراتها ودفاعها"، متسائلا في الوقت ذاته عن "أفول رجال الماضي حاليا"، مسجلا ذهوله وصدمته مما أسماه "ضياع التشبث بالمبادئ والروح الوطنية في الوقت الراهن".
أما توفيق الادريسي، أحد المتابعين في ملف محاكمة مراكش لسنة 1971، فسلط الضوء على زميله في السجن الراحل محمد الحبيب الفرقاني، الذي قال إنه تعرض لتعذيب وحشي طيلة 3 أشهر المحاكمة "تعذيب لا يمكن أن يوصف أو يتصور.. وذلك حتى لا يذكر إسم أحد من حضورا في اجتماع للقيادة الاتحاد الوطني"ن مضيفا أن هناك المئات من الاتحاديين اعتقلوا قبل تلك المحاكمة ولم يقدم منهم سوى 193.
وذكر الادريسي أن هيئة الدفاع، في شخص عبد الرحيم بوعبيد ومحمد بوستة قدموا تجريحا للمحكمة، لكون أحد قُضاتها، المدعو اللعبي، كان "خائنا للسلطان محمد الخامس" ومقربا من بن عرفة، مشيرا إلى أن المحكمة قالت بأن اللعبي تمتع بالعفو "لقد أكد خيانته ونفاها بطريقة غير قانونية لأن تهمة الخيانة لا تسقط مع العفو"، يقول الادريسي.
أما صاحب الكتاب، والناشط الأسبق بالاتحاد الوطني للقوات الشعبية إبان فترة المحاكمة الشهيرة، عبد الرحيم بن بركة، فقال إن مؤلفه عبارة عن تجميع لتفاصيل تلك المرحلة، حيث كان يسجل كل أحداثها "بدقة وأمانة"، مضيفا أن الكتاب، الذي قدمه في الندوة التي نظمتها مؤسسة عبد الله كنون للثقافة والبحث العلمي ومنتدى المحامين بالمغرب، يعطي للمغاربة جزءً من تاريخ النضال من أجل تطبيق الديمقراطية وإقرار حقوق الإنسان.
بن بركة، الذي قال إنه كان ينتمي لمكتب الزعيم الاتحادي عبد الرحيم بوعبيد ومحمد الصديقي وناب عن بعض المتهمين في الملف، وصف العمل بكونه يؤرخ لفترة سياسية هامة من تاريخ المغرب، ولحظات فارقة في تاريخ حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، مضيفا أن المحاكمة مرت في أجواء مشحونة كان يعيشها المغرب "من حملات القمع والاعتقال والاختطاف ومنع الحزب حتى من وسائل التواصل، حيث منع من إصدار جرائد التحرير والمحرر، ومنع من عقد اجتماعاته"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق