بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 24 يناير 2014

التكفير. أو الأُمِّيَّـــة الإنســانيـة




تناسلت، في الآونة الأخيرة، دعاوى التكفير، والتكفير المضاد، في جو اقتصادي وسياسي وثقافي محتقن، وفي مناخ مختنق جدا. ويبدو من مثل هذه الخطابات أن التعبير عن الرأي يبدو من أصعب ما يمكن أن يقوم به فرد من الأفراد، عملا بالقول الدارج أو المثل الشائع : "خلي ذاك الجمل بارك"، وهو التعبير نفسه أو قريب منه ما عبّر عنه الوزير الأول البريطاني "وليام بيت الأكبر" [William Pitt, 1st Earl of Chatham] (حكم بين 1766-1768) أيام بداية احتجاجات المستوطنين في شرق الولايات المتحدة الحالية على فرض ضرائب على منتجاتها المتوجهة إلى الجزيرة البريطانية، وهو ما أشعل فتيل الثورة ضد العرش البريطاني، وأفضى إلى استقلال المستوطنات الثلاثة عشر وتحولها إلى ما يُعْرَف اليوم بالولايات المتحدة الأمريكية.
غير أننا في المثل المغربي أكثر أدبا مما استعمله الوزير الأول آنذاك، إذ بدل "الجمل" استعمل الرجل عبارة "الكلاب". غير أننا نرفض استعمال العبارتين، فنحن بصدد مخاطبة الإنسان، فلا الجمال ولا الكلاب قصدنا، فهي غير مكلفة، ولا معنية مباشرة بقضايا الأسماء والاستخلاف التي جعلت شأنا إنسانيا صرف. واحترامنا من هذا المنطلق ثابت بالنسبة لمن يعارض الأفكار ومن يقبلها، فهما فيه سواء وفي الكرامة الإنسانية لا يفضل أحدهما الآخر. هذا هو المأمول والمفترَض من نقاشات ساخنة مثل هذه.
عود على بدء
قبل نزول القرءان الكريم، كانت أُمَّـة العرب أُمِّيّـةً بمعنى لم يسبق فيها كتاب مُنَزَّل تقرؤه ويرشدها، ويكون لها وثيقة هادية لها، تقدِّمُها للأمم الأخرى فتكونَ شاهدةً عليها. وكذلك كان. وبعد تنزُّل الكتاب لم تعُد أُمَّـة الإسلام اُمَّـةً أُمِّيّـةً؛ ولو أن الحديثَ وكثرةَ الرواية حرَّفتْها عن مقاصدها بتحريرها من القرءان، واعتبرت نفسَها أُمَّـةً أُمِّيّـةً لا تكتب ولا تحسُب.
وعلى الرغم من قرون التدوين وإنتاج المعرفة، فإن النكوص والاستبداد سرعان ما استغرقا الفضاء وخنقا الأجواء، وعملت السياسة بتلاوينها على إفساد المنهج، فكان التراجع حتى أنهكت الأُمّـة استبدادا وقُتِلَت جهْلا. فالأُمِّيّـة لا تتعايش إلا مع الجهل والاستبداد، وفي تلك المستنقعات ينتعش التكفير بحقٍّ.
وبعيدا عن التفصيلات والفذْلكات الكلامية التي تُقَسّم الكُفرَ إلى نوع وعيْن، وأنه مفوَّض إلى جهة أو مؤسسة معينة لتكفِّرَ، وتهرطِق وتُزَندِق، من خرج عن النموذج المرسوم، و"البردايم" [Paradigm] المعتبر والمقدَّس، نقول بكل وضوح إنه ما فشا التكفير في قوم إلا وأصبح وبالا على الأمة بأسرها. وكان أولى بمن أطلق عبارات العنف التكفيرية أن يقرأ التاريخ الإنساني وتاريخ الأديان، وكيف تنازع القوم أمرهم بينهم، وكيف قال بعضهم إن بعضهم الآخر ليس على شيء، وهم يتلون الكتاب بدون تعقل أو تدبُّر.
وسنكتفي بمثال واحد ناصع حالك في الوقت نفسه وهو مذبحة "القديس بارثيلماوس" في فرنسا [Saint-Barthélemy]. لقد شهد هذا البلد أبشع صور التقتيل الهمجي والحرب الأهلية بلبوس ديني طائفي بغيض. ووصلت أرقام الضحايا البروتستانت أكثر من 30 ألف قتيل من أعمار مختلفة في أنحاء فرنسا كلها. وفي باريس تحديدا في ليلة 24 غشت (أغسطس) 1572 م.
كانت هذه المجزرة الرهيبة قائمة على أساس التكفير الذي تعرض له البروتستانت. فاندفع الجنود الكاثوليك مدعومين بالأهالي المتحمسين المتعصبين للكاثوليكية، ومن الرافضين لحقن الدماء الذي جاءت به سياسة الملك "شارل" التاسع [Charles IX] (حَكَـم بين 1560-1574) وهمُّوا تقتيلا وتمثيلا بمن خالفهم المذهب، وبقروا البطون وقطعوا الرؤوس، وأهلكوا الرُّضَّـع، ولم ينْـجُ شيخ ولا طفل ولا امرأة، فلَـمْ يبقوا أحدا علموا بكونه بروتستانتيا في تلك الليلة الرهيبة. والحق أن التوتر الذي انتهى إلى ذلك الاحتقان كان من تأثير الكنيسة والتوترات الأجنبية التي كانت تعادي فرنسا، ومنها المحيط الإقليمي الذي كان يرى في فرنسا منافسا خطيرا، وأن الحرب الأهلية وانقسام البلد على نفسه سيبعد الخطر عنها، ويبقي هذه القوى أقوى. لكن ما يهمنا من هذا المثل إنما العلاقة التي يمكن للإنسان أن ينسجها من إيمانه ليتصل بإيمان الآخر وإن كان مخالفا له.
العبرة من مذبحة القديس بارثليماوس
وإذا كانت الحكمة ضالّةَ المؤمن فإن مذبحة "القديس بارثيلماوس" الرهيبة لا يمكن إلا أن تكون عِبْـرةً لمن أَلْقـى السمع وهو شهيد. ليرى عن بُعْد من يريد أن يتبيّن أن التكفير السطحي الذي يقوم على أسس سياسية خفية، سيستنتج بعد هذه القرون وهو يرى الطرفين يتقاتلان بنية الفوز بالسلطة والظفر بالغنيمة، أنهما يعلنان أنهما يحققان موعود الرب، وأنهما على الحق والحقيقة، وأن الله تعالى هو من فوضهما إقامة الدين الصحيح في أرضه وبسط شريعته بين عباده في بلاده. وقد يقول قائل هؤلاء غربيون مسيحيون، و- نحن المسلمين – مختلفون عنهم، وديننا سمْح وغير صِداميّ، ويعطي لحقوق الإنسان كل الأهمية، حتى أن قاعدته الذهبية هي : " لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَــيِّ ۚ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُــومِــن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " / البقرة : مقطع 256
فهل يريد من يعلن التكفير في مجتمعاتنا النفيرَ إلى مذابح من هذا النوع؟ الحقيقة أن هذا السؤال ينبغي أن يجيب عنه الفرد الذي يسمح لشيخ أو فقيه أو مثقف بأن يفكرَ مكانَه وينوب عنه في اتخاذ قرار وفي استعمال شيء أو منتوج ، ويوضحَ له كيف سيدخل الجنة أو النار، مع أن الأمر واضح بأن التكفير كما هو واضح من الخطاب القرءاني - حتى لا أقول النص – ليس من حق أي إنسان أو هيئة أرضية زمنية بالبت والمطلق، وخصوصا في عصر نعتبره عصرَ تطور وتقدم، وعصرَ علم يفترض بنا أن نعتنقَ مبادئه ونسير في ركبه بإغنائه بخصوصياتنا، وليس عرقلة المسير بدعوى التخلف والجبن عن المراجعة والنقد مبررين ذلك بالخصوصية. إن الدعوة التي ندعو إليها ليست اعتناقا لكل ما هو أجنبي باعتباره مُتحَضِّرا وحسب، وأن غيره ومنهم الأمة الإسلامية عامة، والمغربية خاصة، لا تملك شيئا تقدمه للإنسانية. الحضارة العالمية مشترك بين الناس كافة، وكلما تقدمنا نحو السلم كافة كلما كسبنا المعركة الحضارية أكثر. ويمكن أن نقدم نموذج السويد التي لم تدخل الحربين العالميتيْن واكتفت بالوقوف على الحياد فأعطاها السِّلْم ما تعط الحرب بقية الداخلين بما فيهم المنتصرون، وها هي المملكة السويدية مثل يحتذى في كثير من المجالات، ولا أقل من أن السيارات الأكثر أمانا هي سيارات سويدية.
إن التكفير سلاح خطير أودى بكثير من الأنفس وأزهقها بحق أريد به باطل في الغالب، فحين كان يراد تكميم أفواه عامة أو خاصة إنما يوجه سلاح التكفير ليستريح المستفيد من النقاد والفلاسفة وكافة المزعجين. ونذكر في هذا السياق بأنه حين نطلق هذا الوصف على شخص معين او هيئة فهو تحريض بشكل مباشر أو غير مباشر على إخراجه من دائرة الحياة، سواء قصد المكفر ذلك أم لم يقصد. فهو يحرض عليه الدولة أو الهيئة المكلفة بذلك أو العامة من المتحمسين لتطبيق ما يسمونه "شرع الله". والله وشرعه براء من جرائم قتلهم. ولا يتعلق الأمر هنا بالتيار الإسلامي بل يشمل التيارات الأخرى ممن تَسِمُ على نفسه العلماني. فالتكفير لا يسير في اتجاه واحد، بل يسير في اتجاه مضاد أيضا، ونستنتج أن الضحية هي الحرية في نهاية المطاف، سواء تم التكفير من الإسلاميين والمحافظين، أو تم من العلمانيين والتقدميين.
والحال أنه حين التكفير ومصادرة المخالفين حق التعبير والنقد نكون قد أسفرنا عن نية القمع ومطاردة النقد، وخنق الروح العلمية المطلوبة في مثل هذه المواضيع، بل في كل المواضيع حتى يصبح الكلام موثقا وعلميا، وتشيع الثقافة بين الناس ومعها التحضر والتأدب، والصبر على الغير في احترام كامل للاختلاف وتقديس له، وتحريم الدم الأهلي تحريما شديدا باتا.
إن الذين يتحدثون عن مصادرة حق الإنسان في العبير والاجتهاد مخافة فتنة قد تصيب عقائد الأُمَّة وتصيب أمْنَها الروحي بالخلل إنما يعتبرون الناس رعايا مثل القطيع لا يكون دينهم إلا على دين ملوكهم ورؤسائهم. وهذا لعمري شيء خطير أن يكون الإيمان نيابة ووكالة من الامة لأحد، فيضيع ضمير الفرد بين القبلية الإيمانية، فينعدم استقلال الضمير والعقيدة الفردية وهي أول أسس الإيمان الحقيقي. فلا ينوب أحد عن أحد في إيمان واعتقاد. لكن إن كان يُقْصَد النسيج السياسي والاجتماعي فمطلوب أن يُحافِظ عليه الأفراد والمجتمعات، بعدم العدوان واعتماد قاعدة " تنتهي حريتُك عندما تبدأُ حرية غيرك ". ونظن أن الخوف على عقائد الأُمَّة ليس نابعا من حرص عليها، لأننا لا يمكن أن نخاف على مجتمع يشيع فيه التنوير، والتعليم الصحيح المؤسَّس على الحِسّ النقدي وطرح السؤال، مهما كان مُؤلِما ومُحْرِجا. وعليه، يبقى هذا الخوف غير مشروع وغير مبني على مبررات مُقْنِعة، وإنما هو عمل على تكريس الواقع وعملا بإبقاء "الجمل بارِكا". والحق أن المجتمع الذي لا يناقش ولا يجتهد ويبقى في فراغ سيأتي لا محالة من يملأ فراغاته الفكرية والثقافية والسياسية وغيرها من المجالات.وهكذا تكون الإشكالية بالنسبة إلينا تتمثل في شقيْن رئيسيْن: الأول ويتمثل في التعليم المؤسَّس على روح النقد وطرح السؤال؛ والثاني ويتجسد في سؤال المضمون. ذلك أننا لسنا أمام مشكلة تحديث مضمون قديم كالذي نملكه أصلا، بل الإشكال يتمثل حقيقة في تغيير المضمون وإعادة النظر في كثير من المناهج والقيم التي انتهت صلاحيتها، ولم يعد أمامها من مكان سوى أن توضَع في التاريخ ونعود إليها للعبرة والدرس، وتحليل الخطاب.
التكفير أُمِّيَّـة إنسانيـة بامتيـاز
إن الاستقرار الذي يتحدث عنه رجل السياسة استقرار مغشوش، واستقرار هشّ لكونه لا يقوم على أساس. فالزلزال البحري الذي يصيب منطقة يتعذر التنبؤ به حتى مع أحدث الأجهزة الإنذارية. ولحد الآن لا يمكن التنبؤ بلحظة انفجار البركان ووقوع الزلزال، صحيح تكون هناك مؤشرات وعلامات، لكن لحظة الانفجار البركاني والزلزلة فهي مما لم يستطع الإنسان إدراكه بحق. وقد أوردنا أمثلة من الشرق والغرب على خطورة التكفير، وإيقاع اللفظ أو الكناية عنه على المخالف، لما يمكن أن يتسبب فيه من وقوع جريمة القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد.
وفي التاريخ القريب كان فرج فودة (1946-1992) الكاتب المصري ضحية لمثل هذه الأفعال والأقوال المسارعة للتكفير، وكاد يذهب الروائي العالمي نجيب محفوظ (1911-2006) هو الآخر ضحية عمل إرهابي، ومن التاريخ البعيد كان الفيلسوف الكبير باروخ اسبينوزا [Benedictus de Spinoza] (1632-1677) هو الآخر ضحيةً مرتين؛ الأولى بتكفير المجمع اليهودي وإخراجه من الملة اليهودية والثانية أنه تعرض لطعن بالسلاح الأبيض بناء على التكفير، لكن لحسن الحظ لم تكن الطعنة قاتلة، ولو أن الفيلسوف احتفظ بالمعطف الذي كان يرتديه وبه ثقب اللآلة الحادة التي لم تصبه في مقتل.
إن التكفير يُعَـدّ أُمِّيّةً إنسانية لكونه عمليةً تتجه إلى إلغاء الإنسان تماما وتغطيته وجعله سوْءة يجب أن تُوارى. ذلك أن الله تعالى (الرحمن حسب السورة) لما "خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)"، وحسب ما نفهم من هذا الخطاب القرءاني الكريم هو انه لا حدود للتعبير شريطة البيان، والتوضيح، على أن المفترَض هو أن يُترَك المبيِّن ليُبَيِّن ما يقصده، ويعزز ما يقول بأدلته بكل أريحية، وأمن دون خوف على حياته أو ماله أو عرضه. ويقابله رأي مخالف مطالب هو الآخر بالبيان. إذن، فالبيان هو من تعليم الله ولا يكون إلا بعونه الذي يتخذ أشكالا وأسبابا أخرى. وهكذا، فاعتماد البيان واجتناب الغموض والتستر على المعاني الحقيقية والمقاصد التي يريدها الفاعل (سواء كان سياسيا أو اقتصاديا أو ثقافيا، وغيره من الفاعلين في المجتمع). فالقول مضمون إلهيا بل مدعوم منه بفعل التدافع المعروف في الكون. لكن ما يُميِّز الإنسان هما عاملا : السلمية والأسماء. وكلما ابتعدنا عن التعبير السلمي، سواء في القول أو الرد. وكلما استبد الغموض بالقول أو الرد فإننا نبتعد عن دائرة الاستخلاف والإعمار ؛ ونتجه رأْسا نحو الأمية الإنسانية، والتي تقوم على عامليْن مُضاديْن وهما الإفساد في الأرض وسفْك الدماء.
فالتكفير، من هذا المنطلق، يشكل عُـدْوانا إن مارسه الإنسان، أما الكفر فلا يضر إلا صاحبَه، إن يكفر فعليه كفره، ولا يتعدى ذلك الكافرَ. لأنه لا يمكن أن نتصور بسذاجة أن يعلن أحد قولا كفرا من وجهة نظره مكفره لكي يتبعه الجمهور ويتخلى الناس عن معتقداتهم بهذه السهولة، وإلا ما أوذي نبي ولا طًرد منهم من طُرِد، ولا هاجر منهم من هاجر، ولا قُتِل المصلحون ممن قُتِل.
ليس للتكفير من مصلحة سوى تكميم الأفواه، وإبقاء الوضع على ما هو عليه. فقد تبين لنا أن اللهَ وحدَه هو من له الحكم الفصل بين الناس فيما كانوا فيه يختلفون، وعلى رأسها من هو على الإيمان الصحيح، ومن هو على صراط مستقيم.

ليست هناك تعليقات: