بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 24 يناير 2014

قانون لتجريم "التطبيع" أم لمحاكم التفتيش؟


قانون لتجريم "التطبيع" أم لمحاكم التفتيش؟

لعل السؤال الأول الذي يطرحه مشروع " قانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني" يكمن في المقصود بـ"التطبيع" وبـ"الكيان الصهيوني" ذاته؟ كما يكمن في مدى إمكانية تحديد فهم موحد وموضوعي وإرساء تعريف قانوني لهذين المفهومين/المصطلحين اللذين نشئا، بدايةً، في سياق أجنبي عن المغرب ووظفا في الخطاب الإيديولوجي والسياسي بأشكال متباينة تباين الخطابات والمرجعيات السياسية، قبل أن يعمد بعض الفرقاء السياسيين المحليين لإقحامهما عنوة في السياق السياسي المغربي وقاموا بفرضهما باعتبارهما "مسلمات" و"بديهيات" بل "ثوابت وطنية" لا تجوز مسائلتها أو مناقشتها بأي حال من الأحوال تحت طائلة التخوين والاتهام بالمروق عن الدين والعمالة للمشروع الامبريالي والأجندات الصهيونية!
بدايةً يجدر التذكير بأن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية كان دوماً محل إدانة من جميع الفرقاء الفكريين والسياسيين بالمغرب. كما أن الاضطهاد المستمر للشعب الفلسطيني وهضم حقوقه الأساسية واقع لا يمكن لأي ديمقراطي مؤمن بقيم الحرية والعدالة وحقوق وكرامة الإنسان إلا أن يدينه ويصطف ضده وبكل وضوح...غير أن كيفيات وطرق تصريف هذا الموقف المبدئي ستختلف بلا شك من طرف سياسي وفكري إلى آخر حسب أولويات كل طرف ومرجعيته الإيديولوجية ومقارباته للكيفية الأمثل للتعاطي مع القضية الفلسطينية والآفاق الأمثل لحلها، ولا شك أن هذا من بديهيات الاختلاف السياسي والتباين الفكري.
كما يجدر التذكير، تذكير من وصل اليوم إلى الحكم، بأن مواقف المغرب من القضية الفلسطينية تميزت تاريخياً بمستوى عال من الحكمة والتوازن واتسمت مبادراته بكثير من الاعتدال والواقعية تلك التي تنبع من شخصيته الميالة للاعتدال والتسامح نتاج بنيته الثقافية الغنية والمتعددة وقدرة أهله على استيعاب الاختلافات الثقافية والدينية وإبداع وصفات خلاقة للتعايش، وهي الخصال التي أرست لتفرد الشخصية المغربية عبر تاريخها الطويل وجعلتها محل تقدير واحترام. هذه المواقف التي كانت موضع تهجم وازدراء من طرف عرابي الإيديولوجيات المشرقية من تيارات القومية العربية خلال الستينيات والسبعينيات ثم حركات الإسلام السياسي الإخوانية والسلفية الوهابية منذ العقدين الأخيرين من القرن الماضي حتى اليوم، وهي التيارات التي توظف القضية الفلسطينية بكثير من الانتهازية وتبني جزءاً كبيراً من شرعيتها المفقودة عليها. فإذا ما كانت الأنظمة القومية العربية، سواء الناصرية أو البعثية، قد جعلت من "تحرير القدس" و"التصدي للخطر الصهيوني الداهم" أساس مشروعيتها السياسية الغائبة والمشجب الأنسب لإخفاقاتها والجدار الذي تنكسر عليه آمال الشعوب الشرق الأوسطية بالديمقراطية والتنمية والتقدم لعقود وعقود، فإن الشعارات نفسها ترفع اليوم، مع اختلافات بسيطة، من طرف حركات الإسلام السياسي.
وبالرغم أن الوقائع التاريخية أثبت بما لا يدع مجالا للشك انتهازية العديد من رافعي شعارات الدفاع عن القضية الفلسطينية والتصدي للكيان الصهيوني، إلا أن بعض الفرقاء عندنا لا يزالون مصرين على المضي قدماً في الركوب على قضية عادلة لدغدغة عواطف الناخبين ولتحقيق مكاسب سياسية عجزوا عن تحقيقها بكيفية مشروعة عبر العمل السياسي الحقيقي والكد والإبداع خدمة لمجتمعاتهم وأوطانهم، ناسين أو متناسين أن لا شيء يترجاه الفلسطينيون ممن عجز عن إحداث تأثير ملموس وإيجابي في محيطه المباشر... والأدهى أن كثيرا من هؤلاء لا يترددون في الاسترزاق الصريح بالقضية الفلسطينية واستعمالها سلاحاً للمزايدة المكشوفة على خصومهم السياسيين وخاصة على الحركة الأمازيغية ومناضليها الذين يتم ابتزازهم بمثل هذه التهم الرخيصة التي لم تعد تنطلي على المواطن الواعي والإنسان العاقل.
وإذا ما كان رصيد هؤلاء لم يكن يتعدى تدبيج الخطب والبيانات النارية فيبدو أنهم قرروا هذه المرة الانتقال للسرعة الموالية عبر عملهم الحثيث على مشروع قانون "تجريم التطبيع". فحسب المعلومات التي تسربت بخصوص مضمون مسودة المشروع الذي يبدو أن أصحابه يحرصون على سرية مضامينه الطريفة، نجد أنه ينص على أن معنى التطبيع لا يقتصر على الأنشطة والتعاملات السياسية والمالية والتجارية مع من ارتأى أصحابنا وصفهم بـ"صهاينة"، بل يشمل كل الأعمال والأنشطة التي يساهم فيها أو يشارك فيها أو يحضرها أشخاص معنويون أو ذاتيون يقيمون في المغرب، سواء كانت ذات طبيعة سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو فنية أو رياضية أو غيرها، وسواء كانت منظمة من جهات رسمية أو غير رسمية!
ومن أوجهه المكر في هذا الفهم الفضفاض الذي سيفتح باب التأويل المزاجي واتهام المواطنين والمواطنات وملاحقتهم في حرياتهم وحقوقهم، نجد كيف ينص المشروع بشكل واضح على نظام لمحاكم التفتيش في الضمائر من خلال معاقبة بالحبس والغرامات كل من يشك في إقدامه أو نيته الإقدام على عمل قد يفهم منه أنه سلوك "تطبيعي" كما يتضح ذلك من القول "ويعاقب كل من يساهم أو يشارك في ارتكاب أفعال التطبيع أو يحاول ارتكابها بعقوبة حبسية تتراوح بين اثنين وخمس سنوات وبغرامة تتراوح بين مئة ألف ومليون درهم..."!
لذا والحالة هذه، ورغم كل العبثية المحيطة بالموضوع ككل، سيتوجب التوقف لطرح بعض التساؤلات على أصحاب المشروع:
- هل يشمل مفهوم "التطبيع" جميع المنتسبين للديانة اليهودية أم يختص بمواطني الدولة العبرية، أم يقتصر فقط على المنتمين إلى الحركة والفكر الصهيوني؟ وما هي الآليات العملية المقترحة للتمييز بين كل هذه الفئات؟
- هل سيتم اعتبار كل المعاملات وأشكال الاتصال التي تجمع بين المواطنين المغاربة مع المواطنين اليهود المغاربة أو الإسرائيليين "تطبيعا"؟ وما موقع آلاف اليهود المغاربة أو من أصول مغربية الذين يتواجدون في إسرائيل وكل دول العالم والذين تربطهم علاقات مواطنة واضحة بالمغرب وبالمغاربة، والذين تجمعهم علاقات روحية وثقافية وتاريخية واقتصادية بالمغرب؟
- بالنظر لانتشار العنصر اليهودي في جميع البلدان الأوروبية والأمريكية وغيرها، وبالنظر لكثرة المتعاطفين مع إسرائيل في تلك الدول من غير اليهود سواء من أشخاص ومؤسسات...فهل سيتوجب قطع العلاقات مع تلك البلدان وساكنتها ومؤسساتها قاطبةً أم بالمقابل إجراء بحوث دقيقة حول كل الشخصيات والمؤسسات والشركات لمعرفة "مدى صهيونيتها" لتحديد قانونية التعامل معها من عدمه، ومن سيتولى هذه المهمة الجسيمة؟!
- هل سيتوجب على المواطن المغربي استفسار الأجانب الأوروبيين والأمريكيين الواردين على المغرب من سياح وأكاديميين ومستثمرين وغيرهم عن ديانتهم وقناعاتهم السياسية قبل التعامل معهم؟ أم أن الدولة ستتولى ذالك في مطارات وموانئ المغرب؟!
- هل يقتصر مفعول هذا القانون على المواطنين المغاربة العاديين الذين يتم اتهامهم ب"الصهينة" من طرف الجماعات الإسلامية والتيارات القومية، وعلى حوالي ثلاثين ألف من المغاربة الذين يزورون إسرائيل سنويا بالأخص لأغراض تجارية حسب إحصاءات رسمية، أم يمتد ليشمل كذلك الدولة وأجهزتها؟ وأين يمكن تصنيف العمليات والأنشطة والتعاملات التي تدخل ضمن المصلحة الإستراتيجية كالتسليح والاستفادة من تجربة التخطيط الاستراتيجي العسكري والحاجات الضرورية والتبادلات الاقتصادية العادية، والتكنولوجيا العالية التطور علما أن أكبر شركات الأسلحة والتكنولوجيات الأمريكية والغربية مملوكة لجهات معروفة بدعمها لإسرائيل؟
- لماذا تسعى بعض الأحزاب والتيارات والجماعات الإسلامية والقومية إلى المقاطعة التامة بين المغرب وإسرائيل بينما لا تجد الدول العربية المحيطة حرجا في ربط علاقات دبلوماسية عادية معها، ولا تترد دول وجماعات أخرى في التعامل والتنسيق مع الدولة العبرية من تحت الطاولة؟ فإذا ما كانت هذه الأطراف وهي المعنية مباشرة بالصراع بما في ذلك الفلسطينيون أنفسهم يسعون براغماتيا لتحقيق مصالحهم الوطنية، فلماذا الإصرار دائما على جعل المغرب "عربيا أكثر من العرب وإسلاميا أكثر من المسلمين" حينما يتعلق الأمر بقضايا الشرق الأوسط؟!
- هل تم تقييم مستوى المكاسب –إن كانت هناك مكاسب أصلاً- والخسائر السياسية والاقتصادية والإستراتيجية المترتبة عن اعتماد قانون من هذا القبيل على المغرب وقضاياه الحيوية؟ وما هي الجهات الحقيقية المستفيدة من مبادرات من هذا القبيل؟ أليس الأمر مجرد حنين إلى خطاب المعارضة ودغدغة العواطف من طرف من هم في الحكم والسلطة؟
وأخيراً نتساءل إن كانت أمثال هذه القوانين هي ما ينتظره المغاربة من "نخبهم" السياسية أم العمل على تطبيق ترسانة القوانين الموجودة وتغيير القوانين التي تشرع للاستغلال، وذلك بما يضمن القطع مع الفساد والإقصاء بكافة أنواعه وتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية والكرامة لعموم المواطنين؟

ليست هناك تعليقات: