بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 23 أغسطس 2014

جهالة الخلافة


مركزتيفاوت الإعلامي
ادريس الكنبوري
وكأن التاريخ يعيد نفسه، مع الفرق بين البداية والتكرار، إذ في الأولى يكون التاريخ مادة للتأمل، وفي الثانية يصبح مادة للسخرية. ففي كتابه الجديد"ثياب الخليفة" الذي كتبه عمر محمود عثمان، المعروف بأبي قتادة الفلسطيني، في الرد على زعيم جماعة"داعش" أبي بكر البغدادي، التي يطلق عليها إسم"جماعة الخلافة"، ما يفيد بربط حلقات التاريخ بعضها ببعض. فالرجل ـ الخبير بنفسيات جماعات الجهاد طالما أنه أحد روادها ـ يكشف عن أسرار خطيرة ربما تعرف لأول مرة على لسان شخص من الداخل. وإذا كنا نتحدث في حالة جماعات الإسلام السياسي عن جدلية الدين والسياسة، فإن الأمر في حالة جماعات الإسلام الجهادي تتعلق بجدلية الدين والرئاسة، وهذا أحد تناقضات الفكر الجهادي الذي يكفر أصحاب المشاركة السياسية ويعتبر السياسة نجاسة، ولكنه يوغل في نزعة سياسية أكثر تشددا تميل إلى استئصال حتى أولئك الذين يدورون في فلك الفكر الجهادي ويشاركونه نفس الانتماء.

حسب أبي قتادة فإن لب الخلاف بين البغدادي وزعيم تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري، كان حول السلطة والنفوذ لا حول الجهاد والحدود. ففي ضوء النزاع الذي نشب بين الرجلين اقترح الأول على الثاني إعلان الخلافة، لكن الظواهري رفض الاقتراح، والسبب أن ذلك الإعلان سيسحب الشرعية من القاعدة لصالح جماعة داعش. ولا يجد أبو قتادة حرجا في الاعتراف بهذه الحقيقة، إذ يقول إن جماعات الجهاد كلها كانت"على طريق واحد، بل والكثير منها على إمرة واحدة ألا وهي البيعة للدكتور الحكيم".

وما يخلص إليه أبو قتادة يعيد تذكيرنا بأول ما كتب عن الخلاف على الرئاسة في تاريخ الإسلام، حينما قال الشهرستاني في "الملل والنحل" كلمته الشهيرة إنه ما سل سيف في الإسلام إلا بسبب الإمامة. فهو يقر بأن مسارعة جماعة داعش إلى إعلان الخلافة لم تكن"دفاعا" عن الإسلام، بل كانت نوعا من"الصراع على الإمارة والقيادة، وهذا أعظم شرورِ تاريخ الإسلام، فإن المرء المسلم يحق له أن يفتخر بإطلاقٍ في كل جوانب التاريخِ الإسلامي، حتى إذا جاء إلى موضوع الإمارة رأى السواد والحسد وسفك الدم الحرام وكثيرا من الدنيا مع القليل من الآخرة، ومن قرأ تاريخ الجماعات فلن يتعجب من تلبيس الأهواء أدلة الشرع والدين، فهذا أسهل ما يأتيه هؤلاء".

بيد أن أبا قتادة لا يرى من دولة الخلافة التي أعلنتها جماعة داعش إلا الجانب الذي يرتبط بنزع المشروعية عن جماعات الجهاد الأخرى، أي أنه يهتم أساسا بانعكاس ذلك على هذه الجماعات فقط لا على واقع المسلمين أجمع، لأن "دولة الخلافة" مرتكزة على التنافس والمغالبة مع تلك الجماعات، فهو يقول مثلا:"وحقيقة دعوة الخلافة هذه موجهة لجماعات الجهاد العاملة في الأرض من اليمن والصومال والجزائر والقوقاز وأفغانستان ومصر وعموم بلاد الشام وليست إلى عموم المسلمين، فهؤلاء لا يشغلهم هذا الإعلان إلا بما هو معنى الإعلان عن سلعة من سلع الحياة". وفي هذا ـ كما هو واضح ـ نزعة تكفيرية، إذ على الرغم من أن أبا قتادة يؤاخذ جماعة البغدادي على غلوها في التكفير إلا أنه يرتدي قناعا تكفيريا مختلفا حينما يعد الجماعات التي ذكرها هي"أهل الحل والعقد"الذين ما كان ينبغي إعلان الخلافة من دون الرجوع إليهم.

يؤسس أبو قتادة موقفه الرافض لدولة الخلافة على عدة مبررات. أولها أن إعلان الخلافة أمر إرادي لا ينبغي أن يفرض بالقوة، ولا أن يتم اتخاذه بمعزل عمن يسميهم "أهل الشورى" أو أهل الحل والعقد، المشار إليهم أعلاه. ويقول أبو قتادة إن سيطرة جماعة داعش على أجزاء من العراق وسوريا واغترارها بذلك ليس جديدا في سجل الجماعات الجهادية، فقد حصل ذلك للملا عمر في أفغانستان ولجماعات الجهاد في الصومال واليمن ومالي، ولكن هؤلاء لم يغتروا ولم يتجرأوا على إعلان الخلافة من المواقع التي سيطروا عليها.

والمبرر الثاني تهديدها للمخالفين الذين لم يبايعوا بالقتل، والثالث إلغاؤها لجميع الجماعات الأخرى لعلة الخلافة، والرابع تكفير المخالف على"دين الخوارج"، والخامس أن زعماءها أهل غلو وبدعة "وفيهم جهل عظيم، حيث لا علماء ولا فقهاء يقدرون سوق هذا الأمر العظيم الذي ادعوه، الخلافة العظمى"، والسادس أنهم رغم قتالهم للزنادقة"وهذا أمر محمود" ـ وأبو قتادة يعني بالزنادقة هنا الشيعة ـ إلا أن الإمامة العظمى التي أعلنوها فاسدة شرعيا وعلميا. وأخيرا يصدر أبو قتادة حكمه على جماعة داعش بأنها جماعة بدعية تكفيرية جاهلة.

خلاصة الأمر أن كتاب"ثياب الخليفة" يعد وثيقة أساسية في قراءة الفكر الجهادي وجماعات الجهاد التي تنطبق عليها الآية"تحسبهم كثيرا وقلوبهم شتى". فخلف الواجهة الأمامية تكمن خلافات قاتلة بسبب نزوعات الحكم والسلطة التي تأبى سوى جعل النص يلبس كل لبوس، وتذكرنا بلعبة التحكيم في عهد معاوية حينما رفع أبو موسى الأشعري المصحف للتحاكم إليه، بينما كان الهدف وراء ذلك التمكن من الحكم لا الوصول إلى التحاكم.