ما أقوله في هذا المقال المتواضع لا يمكنه أبدا أن يفي حق الزعيم العالمي نيلسون مانديلا، أحد أعظم البشر الذي عاش على وجه البسيطة و الذي وافته المنية يوم الخميس 5 دجنبر الماضي عن عمر يناهز ال 95 عاما .
سمعت عن نيلسون مانديلا لأول مرة من خلال الإذاعة والتلفزيون المغربي عندما كنت طالبا في جامعة محمد الخامس بالرباط في أوائل السبعينات . أعرب الطلاب المغاربة في ذلك الوقت عن دعمهم اللامشروط لـمانديلا ورفاقه في كفاحهم ضد نظام بريتوريا الاستعماري والعنصري وذلك من خلال المظاهرات و الاحتجاجات.
و أثار اعتقاله وسجنه سخط واستياء الطلاب في جميع أنحاء العالم. كنا جميعا على قناعة أن النظام الاستعماري في جنوب أفريقيا كان وحشيا وجائرا اتجاه السكان السود الأصليين الذين كانوا يريدون الحرية والكرامة و العدالة الاجتماعية فقط.
كنت أقود سيارتي على الطريق الرئيسية فاس- مكناس متوجها إلى الأكاديمية الملكية العسكرية لتعليم اللغة الإنجليزية لـفئة من الطلبة المغاربة والأفارقة، عندما سمعت على أمواج الإذاعة الوطنية نبأ إطلاق سراح نيلسون مانديلا من السجن بعد قضائه 27 عاما في معتقل جزيرة روبن آيلاند في جنوب إفريقيا. فتناقل جميع الطلاب والمدرسين هذا الخبر السار بكل غبطة وفرح، كما لو أن أفريقيا قاطبة قد لمت الشمل مع ابنها الحر الطليق و كما لو أن كل أفريقيا أصبحت أخيرا حرة ومستقلة. وأعلن عن نهاية نظام الميز العنصري البائد، الذي ألغي رسميا في عام 1994. وهكذا أدى النضال المستميت والمؤلم الذي خاضه مانديلا ورفاقه من حزب المؤتمر الوطني الإفريقي إلى القضاء على هذا النظام العنصري وعلى حرب الإبادة ضد السود في جنوب إفريقيا.
في السنة الموالية علمت أن مانديلا انتخب رئيسا بأغلبية ساحقة. وأصبح أول رئيس منتخب ديمقراطيا في جنوب إفريقيا الحرة والحديثة. ولكن سرعان ما بدأت أقلق وأتساءل عما إذا كان مانديلا سيبقى في السلطة مدى الحياة مثل معظم الحكام الأفارقة و جل رؤساء الدول العربية ؟
وحين قرأت السيرة الذاتية الخالدة لـمانديلا " المسيرة الطويلة إلى الحرية" ، تساءلت: كيف يمكن يا ترى لشخص ما أن يــقاوم عزلة الزنزانة والأعمال الشاقة ويحافظ على صحة جيدة و معنوية مرتفعة بعد أكثر من ربع قرن في السجن في ظروف غير إنسانية ، وكيف تمكن مانديلا بفضل إيمانه بقضية شعبه من تحقيق ما لا يمكن تصوره ، وينهي أخيرا الصراع المسلح بين السكان البيض والسود في جنوب إفريقيا، و يصبح رئيس أكبر قوة اقتصادية في إفريقيا. كما استوقفني نهج المصالحة الوطنية الكبرى الذي اتبعه منديلا رغم أن الكثير كان ينادي بالانتقام، هذا النهج الذي شكل أبرز المحطات التي استأثرت باهتمام الملاحظين الدوليين في تكريس دولة الحق والقانون، وألهمت دولا مثل المغرب لطي صفحة الماضي القاسية من أجل الانغماس في التعايش السلمي والديمقراطية والتنمية ، وبعد ذلك صدم منديلا العالم مرة ثانية بإعلانه أنه لن يترشح من جديد لمنصب الرئاسة بعد نهاية ولايته الأولى في عام 1999.
شخصيا اندهشت وأعجبت في نفس الوقت بهذا القرار التاريخي، باعتبار أن في تلك الحقبة كان من غير العادي بالنسبة للرئيس المنتهية ولايته في بلد إفريقي أو عربي أن ينسحب طوعا من السلطة. في منطقتنا، على سبيل المثال، لا يزال عدد من قادة و رؤساء الدول يطمحون إلى السلطة مدى الحياة، ولا يغادرون السلطة إلا بعد وفاة طبيعية أو بـلهيب الثورة أو عن طريق انقلاب.
أشعر بأنني محظوظ للغاية ويشرفني أن بداية دراستي الجامعية تزامنت مع توهج الكفاح المسلح ضد نظام الميز العنصري كما تزامنت بداية مسيرتي كأستاذ جامعي وباحث مع الإفراج عن مانديلا وعودته إلى الحياة السياسية الإفريقية.
لقد ألهم نضاله وحبه للسلام والتعايش وتواضعه الملايين من الشباب والكبار في جميع أنحاء العالم أكثر من أي كتاب أو درس في المواطنة أو التربية المدنية.
وفي عام 2011 ، أصدر مانديلا بيانا حث فيه الشباب في منطقة الربيع العربي إلى ضبط النفس واستخدام الحكمة وتجنب العنف والانتقام، وإعطاء فرصة للحوار والمصالحة و الحوار. وأضاف لو اتبعت بلاده مسار الانتقام بعد الإفراج عنه، لنشبت حرب أهلية جديدة في جنوب إفريقيا لا أحد يستطيع إخمادها.
وفي عام 2011 ، أصدر مانديلا بيانا حث فيه الشباب في منطقة الربيع العربي إلى ضبط النفس واستخدام الحكمة وتجنب العنف والانتقام، وإعطاء فرصة للحوار والمصالحة و الحوار. وأضاف لو اتبعت بلاده مسار الانتقام بعد الإفراج عنه، لنشبت حرب أهلية جديدة في جنوب إفريقيا لا أحد يستطيع إخمادها.
مع الأسف في كثير من الدول الإفريقية والعربية، وصل إلى السلطة عدد غير قليل من الحكام المستبدين الذين تابعوا نفس الأساليب والسياسات الاستعمارية القمعية التي كافحت الشعوب الأفريقية والعربية بقوة ضدها من أجل استعادة استقلالها. أغلب هؤلاء الطغاة اكتنزوا ثروات خيالية بطرق غير مشروعة بينما الجوع والبطالة يغزو مجتمعاتهم، ما دفع المزيد من الشباب إلى هاوية الفقر أو الهجرة غير القانونية.
وبعد أن غادر مانديلا السلطة لأكثر من عشر سنوات، بدأ تأثيره واضحا على القارة السوداء وخطا بذلك خطوة تاريخية نحو بلدان العالم الثالث، ملقنا درسا رائعا لـ"رؤساء الدول مدى الحياة" في البلدان العربية الذين يتشبثون بالسلطة ضد إرادة شعوبهم. غير أنـني متفائل لأن نموذج مانديلا أعطى دفعة قوية للإصلاحات الديمقراطية في أفريقيا والعالم، حيث العديد من رؤساء الدول امتثلوا أخيرا لدستور بلدانهم و انسحبوا دون عنف.
فأنا سعيد لكون مانديلا ألهم الملايين من الشباب في جميع أنحاء العالم و سوف يلهم الأجيال المقبلة على مواصلة النضال من أجل الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية ، واحترام حقوق الإنسان والتعددية والديمقراطية.
لم يسبق لزعيم آخر أن التأم حوله هذا العدد الهائل من الــشخصيات العالمية لتشييع جنازته .فأكثر من 100 رؤساء دول وحكومات من مختلف أنحاء العالم ، بما في ذلك الرئيس الأمريكي باراك أوباما وثلاثة من أسلافه ، جورج بوش الأب وجيمي كارتر و بيل كلينتون والرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند و الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون والأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، الذين حضروا جنازة هذا الزعيم العالمي العظيم الذي كان رمزا للحرية والمساواة في بلده وفي العالم . وهذه علامة واضحة على مدى تأثير نيلسون مانديلا على كل أرجاء المعمور.
فهل سيقتدي الحكام العرب بمانديلا؟ أتمنى ذلك ، ولو قليلا ، حتى يصبح الربيع لدينا فعلا ربيع الحرية والديمقراطية والمصالحة. وأتساءل لماذا لا تستخلص شمال إفريقيا والشرق الأوسط على وجه الخصوص الدروس من إرث مانديلا الذي يقوم على الحوار والتسامح و احترام الآخر، وهي صمام أمان للتعددية والديمقراطية والسبيل الوحيد للخروج من المأزق الذي نتخبط فيه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق